لا أدري لماذا رجعت بي الذاكرة لبعض قرارات الأمم المتحدة فيما يتعلق بقضايا العالم الإسلامي، بعد مطالعة مسودة مندوب الأمم المتحدة برنارد ليون المتعلقة بالنزاع الدامي في وطني.
فالأمم المتحدة – كما يعلم كل منصف حر – هي هيئة تكونت على أساس اختلاف موازين القوى التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، والتي رشحت عن وجود كتل منتصرة مستكبرة، تجّمعت في شريحة “دول الفيتو”، هذه الدول التي تهيمن على العالم، وتفرض شروطها ومصالحها، دون أي اعتبار لقيم العدل والحرية والكرامة الإنسانية، ودول أخرى ضعيفة، ذليلة، ترزح تحت قيود التبعية، والتخلف، والعمالة، تجمعت في شريحة “دول العالم الثالث”! والترتيب الثالث هنا ليس عن استحقاق، بل لعدم وجود عالم رابع، وخامس، وسادس!
وقد فتلت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، حبالاً مُحكمة، نُسجت خيوطها وعُقدها، من منظومة القوانين، والمعاهدات، والسياسات الدولية الظالمة، التي تمنع منعاً باتاً، وتحت أي ظرف من الظروف، خروج دول العالم الثالث من قيود التبعية، والهيمنة، والتخلف، أو تفكيك تلك الحبال وحلحلتها على أقل تقدير.
المتابع لقرارات وتوصيات الأمم المتحدة المتعلقة بقضايانا العربية والإسلامية بشكل عام، سيجد أن هذه المؤسسة العالمية سرعان ما تنقلب من مؤسسة تمثل المجتمع الدولي، ومواثيق الشرف التي توافقت عليها الدول الأعضاء، إلى مجرد أداة وظيفية قاهرة، تعمل على حفظ مصالح السيد المنتصر القوي، وتنحاز دون أدنى تردد لكل من يحقق له مصالحه، ويكرس سيطرته، على المؤسسات العسكرية، والاقتصادية في منطقتنا العربية، ولا مكان هنا، للغة القيم، وأحكام القضاء، وإرادة الشعوب “الثالثة” مادامت ستخل بتلك القاعدة المطردة.
رجعت بي الذاكرة لمأساة شعبنا البوسني المسلم في أوروبا، فلم يكن دور الأمم المتحدة آنذاك سلبياً – كما كتب بعض المثقفين – بل كان إيجابياً، ولكن في صالح الصليب الصربي الكرواتي، حيث لم تُطبق قرارات الأمم المتحدة بحظر السلاح وعدم تصديره إلا على جمهورية البوسنة، واكتفت الأمم المتحدة بمشاهدة الإبادة العرقية على مدى ثلاث سنوات كاملة، وكانت كل جولات الحوار والقرارات والتوصيات، تصب في صالح حسم المعركة لصالح وكيل الغرب الصليبي في المنطقة آنذاك، حتى انتهى ذلك المارثون الدامي الظالم الخبيث، برضوخ قادة الشعب البوسني لشروط الأمم المتحدة وتوقيع معاهدة “دايتون” التي زينت الظلم والإرهاب الصربي، بحلة قانونية ومعاهدة رعتها الأمم المتحدة، بل شاركت في صنعها بالصمت، وعدم الحياد.
ولن أعيد سيرة ومسيرة الأمم المتحدة مع قضية شعبنا الفلسطيني، ومسجدنا الأقصى المبارك، وكيف تتعامل الأمم المتحدة مع ما يسمى دولة “إسرائيل”؛ فهي أعظم وأبرز نموذج يعبر عن ارتهان هذه المؤسسة للإرادة الأمريكية وحلفائها، ودور الأمم المتحدة “الوظيفي” في حسم الصراعات الظالمة، برعاية وتقنين ما يسمى “المجتمع الدولي”، مروراً بقضايا العراق، والصومال، وبورما، وجنوب السودان.
عندما كتب ليون مسودته الأولية حول الصراع في ليبيا، نسي أو تناسى جملة من الأمور البنيوية في وثيقته تلك:
ذكر ليون أهمية احترام مؤسسات القضاء وأحكامها، لكنه نسي أو تناسى قرارات المحكمة الدستورية بشأن البرلمان!
ذكر ليون أهمية بناء توافق لمعالجة ومحاربة الإرهاب، لكنه نسي أو تناسى ممارسات جيش حفتر ومليشياته داخل مدينة بنغازي، ومعتقلاته في جرنادة، وسوسة، والمرج!
ذكر ليون أهمية احترام المسار “الديمقراطي”، ولكنه نسي أو تناسى الظروف الاستثنائية التي أحاطت كل العملية السياسية الهشة منذ التحرير، وأن ديمقراطية (50+1) لا يمكن لها أن تحقق أمناً ولا سلاماً ولا عدلاً ولا توافقاً، ما لم تصاحبها ضمانات تحقق العدل وتمنع أي محاولة لإجهاض ثورة الشعب الليبي في 17 فبراير.
ذكر ليون أهمية الجيش، ولكنه نسى أو تناسى تصريحات الجنرال البرعصي “الموثقة”، بأن 80% من الجيش “الوطني” هو من المدنيين والسلفيين – على حد تعبير البرعصي! وأن على رأس المؤسسة العسكرية رجل مطلوب أمام القضاء، وبقرارات كل مؤسسات الدولة الليبية، بتهمة الخيانة والانقلاب العسكري على الدولة، والذي صرح بأنه كان يعد له منذ عامين، وليس حرباً على الإرهاب كما يزعم!
ذكر ليون أهمية دور القبائل الليبية في تخفيف النزاع، ونسي أو تناسى، أن البيوت التي دمرت، والنساء التي رملت، والدماء التي أزهقت، والعائلات التي نزحت هي من قبائل ليبية أيضاً، ولن تكون هناك أي أرضية للثقة، أو ضمان للعدل، مادامت وثيقة ليون تكرس الانحياز لمن مارس هذا القصف والتدمير والتعذيب والاعتقال وحرق البيوت، وساهم في نشر الكراهية والبغضاء والجهوية وساهم في تمزيق السلم الاجتماعي في البلاد.
ذكر ليون ضرورة مواجهة جرائم ما يسمى “الإرهاب”، ولكنه نسي أو تناسى، وضعَ تعريفٍ جامعٍ مانعٍ لهذا المصطلح، يُتيح لنا إدانة هذا السلوك الإجرامي سواء صدر من فرد، أو جماعة، أو دولة، ولا يفرق بين الضعيف والقوي، ولو صدر ذلك الإرهاب من أحد دول “الفيتو” القوية!
الطريف في المسودة، أنها لم تغفل موضوع الهجرة، وقوارب الموت! رغم أنها ليست من قضايا النزاع بين الفرقاء الليبيين، إلا أن برنارد ليون تعمد “حشر” هذه المسألة في مسودته – ربما لأغراض دعائية تخص مسيرته الأوروبية – ولكنه نسي أو تناسى أيضاً، أن هذه القوارب تحمل جنساً بشرياً كريماً، يحن لأهله، ويعشق وطنه، ولا يرضى به بديلاً، ولم يدفعه لتلك المخاطرة والمغامرة، إلا الفقر، والظلم والتخلف، الذي ساهمت فيه دول الأمم المتحدة، فجُل من يمتطون قوارب الموت قدموا من أوطان غنية؛ نُهبت ثرواتها، وجُهلت شعوبها، وقُمع أحرارها، ولو كانت أممنا المتحدة صادقة في منع هجرتهم لوفرت لهم فرص العيش الكريم، وسبل التمدن، وساهمت في تحرير أوطانهم من قبضة الأنظمة العسكرية المستبدة.
أخيراً، فإن ليون تحمس لمهمته الأممية، ولكنه نسي بأنه مجرد وسيط دولي جاء من أجل الوصول لمقاربة “سياسية” ونزاع داخلي، زاد من فتيله تدخل الأطراف الخارجية من أول يوم، وليس قاضياً يحكم لطرف دون آخر، أو يستخرج وثيقة لا تحترم حتى الوفود التي قضت معه ساعات طويلة لتعبر عن صدقها في حل الأزمة والخروج من هذا النفق الدامي.
كلنا مع الحوار المسؤول، لأننا نراه وسيلة حضارية، ومقدمة منطقية لبناء قواعد التوافق، ونزع فتيل النزاع، وقد تعلمنا من ديننا الحنيف؛ أن أعظم حرمة هي حرمة الدماء، وأن الحرب لا تأتي بخير، ونحن نحترم جهود كل المؤسسات الدولية والمحلية، رغم نقدنا لأعمالها، ونمد يد التعاون معها مادام ذلك محققاً لمقاصد الدين، ومصالح الوطن، ورفاهية الشعب، ولكنني أرى أن مندوب الأمم المتحدة، صاغ مسودة مضطربة، متناقضة، لم تعالج فتيل الأزمة، ولم تحسم محل النزاع، و”قد” تكون سبباً في تعقيدها، لتضع غطاء دولياً قانونياً لتمكين القبضة العسكرية والأمنية على البلاد من جديد، وإعادة منظومة وقيم الحُكم السابقة، ولكن في ثوب جديد، وحينها فإن المنطقة ستدخل في حرب دامية لا يعلم مداها حتى من خطط ودبر لها.