في وقت تتجه فيه كل الأنظار نحو البحر الأبيض المتوسط، والمأساة التي تدور فيه بشكل يومي، وتتسبب في كل مرة بوفاة عشرات أو مئات المهاجرين السريين، لا يمكن تناسي الدور الذي أداه بشار الأسد في استفحال هذه الظاهرة الخطيرة، وإنعاش أعمال عصابات تهريب البشر، وهو الأمر الذي تتغافل عنه وسائل الإعلام.
كان من الأجدر طرح السؤال على المعني بالأمر، بشار الأسد، يوم الإثنين 20 أبريل الماضي أثناء لقائه مع “القناة الفرنسية الثانية”، رغم أنه لم يكن ليفوت الفرصة دون أن يحاول السخرية من عقول المشاهدين، كان يجب طرح الأسئلة حول أعداد السوريين الراكبين في قوارب الموت، إلى جانب عدة جنسيات أخرى من البلدان الأفريقية الفقيرة، والطرق التي اعتمدها لدفع هذا العدد الكبير من اللاجئين نحو السعي لعبور البحر، وحول مدى قدرته، انطلاقاً من القصر الذي يختبئ فيه في دمشق، على ثني آلاف السوريين عن ركوب قوارب الموت بحثاً عن أشياء لم يجدوها في وطنهم.
ورغم أنه لم يكن طرح هذه الأسئلة ليغير شيئاً من الواقع، فإنه كان ليجيب عليها كعادته، عبر تحريف الحقائق وتقديم المغالطات، بهدف التنصل من أي مسؤولية، ولكن الأرقام والتقارير الدولية لا تكذب، وهي أوضح دليل على مسؤوليته.
الأرقام التي تخص اللاجئين السوريين صادمة:
بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، هرب أكثر من 9 ملايين سوري من مناطق سكنهم بين مارس 2011 وأكتوبر 2014م، 6.5 مليون منهم، أي حوالي الثلثين، وجدوا مأوى لهم داخل بلدهم، في منازل فارغة أو في ضيافة أقاربهم أو في مراكز الإيواء المؤقتة، أما الثلاثة ملايين الآخرون فقد استقر بهم الأمر خارج البلاد، أغلبهم في مخيمات تم تخصيصها لهم في تركيا ولبنان والأردن، أما المحظوظون منهم فقد استقروا في مدن أخرى في العالم العربي، أي يستأجرون منازل أو يسكنون في غرف الفنادق.
في 14 أبريل 2015م، قدّرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن حوالي 4 ملايين سوري يعيشون كلاجئين في تركيا والدول العربية، بلغ عددهم في مختلف الدول العربية 2.2 مليون، منهم 133 ألفاً يعيشون في مصر، و247 ألفاً في العراق، و628 ألفاً في الأردن، ومليون و196 ألف لاجئ في لبنان، كما بلغ عددهم في تركيا 1.7 مليون، وفي شمال أفريقيا 24 ألفاً، حسب الإحصائيات الرسمية.
مع استمرار الحرب لمدة طويلة، شعر البعض باليأس من أن يأتي يوم يعودون فيه لوطنهم ومنازلهم، ومع عدم تحملهم للظروف الصعبة التي يواجهونها في المخيمات من حرمان من الحق في التنقل، وعدم وجود أي خصوصية فردية للإنسان وغياب المرافق الصحية، كما أن أغلبهم لم يعد بإمكانهم توفير مصاريف السكن بعد أن طالت فترة تشريدهم، وهو ما دفع بهم للسعي للحصول على اللجوء في بلد آخر، في الغالب في الدول الغربية، ولكن اصطدام البعض برفض مطلبه أو طول مدة الانتظار يجعله يقدم على الهجرة غير الشرعية للوصول لأقرب بلد أوروبي على أمل ألا تتم إعادته من حيث أتى.
في تقرير صدر في يوليو 2014م بعنوان “اللاجئون السوريون في أوروبا.. ماذا نستطيع أن نفعل لنتضامن معهم ونحميهم”، تؤكد المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أنه منذ بداية الصراع في مارس 2011م، تمكن حوالي 123 ألف سوري من اللجوء إلى أوروبا، منهم 112 ألفاً داخل الاتحاد الأوروبي، وفي النرويج وسويسرا، وهو رقم ضعيف جداً مقارنة بعدد اللاجئين في الدول المجاورة لسورية.
فعدد طلبات اللجوء التي تتم الموافقة عليها محدود جداً، ولهذا فمن الطبيعي أن نرى مئات اللاجئين على متن قوارب الموت يحاولون الوصول للضفة الشمالية للمتوسط بأي طريقة، وتعد إيطاليا من أسهل الدول التي يمكن الوصول إليها (أكثر من 160 ألف مهاجر) واليونان (40 ألفاً)، ويأمل المهاجرون أن يذهبوا من هناك نحو دولتي السويد وألمانيا، اللتين استقبلتا وحدهما 56% من طلبات اللجوء، أو إحدى الدول الأخرى التي قد تفتح أبوابها للسوريين على غرار بلغاريا وسويسرا وهولندا؛ حيث تستقبل هذه الدول 14% من الطلبات.
وبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، يعد السوريون أكثر جنسية حاضرة في الهجرة السرية نحو أوروبا في عام 2014م، حيث بلغ عددهم 60 ألفاً من جملة 204 آلاف مهاجر، وهو عدد أكبر بعشر مرات من عدد المهاجرين في عام 2012م.
ومن الواضح أن هؤلاء السوريين هم من دفعوا الفاتورة الأغلى فيما يخص الأرواح البشرية التي فقدت في عرض البحر، علماً أن المنقذين الأتراك والإيطاليين تدخلوا عدة مرات لإنقاذ قوارب تحمل على متنها مئات السوريين.
أسباب هذه المأساة واضحة أيضاً وصادمة:
رغم أن مختلف الأطراف المتناحرة اليوم في سورية تتحمل جزءاً من المسؤولية فيما يحدث، إما عبر قيامها بالتهجير المتعمد لفئات معينة من السكان، أو عبر تسببها عمداً في اضطراب الأوضاع الأمنية في المناطق التي يسيطر عليها خصومهم، فإنه من المؤكد أن بشار الأسد هو المسؤول الأول والرئيس عن الحالة الراهنة، فوحشية النظام والقمع العسكري الذي انطلق كرد مباشر على التطلعات السياسية للشعب السوري، أدت إلى موجة تهجير للسكان ولجوء الملايين للخارج.
من خلال إطلاق النار على المتظاهرين السلميين، وسجن الآلاف من النشطاء والمعارضين، وتعذيب السجناء حتى الموت، دفع هذا النظام بعائلات بأكملها للهرب من مدنها أو قراها للنجاة من هذا السلوك الدموي.
وواصل النظام سياسته الانتقامية ضد المهجّرين، واستهداف مخيمات اللاجئين القريبة من الحدود السورية، ومحاصرة المدن التي التحقت بصف الثورة، وحرمانها من إمدادات الغاز ومياه الشرب والغذاء والدواء، وقصف الأحياء التي تم “تحريرها” من قبل الثوار، وتدمير البنية التحتية الدراسية والصحية؛ ما دفع بهذه العائلات وغيرها للهرب من سورية والبحث عن اللجوء في بلد مجاور.
كما ساهم هذا النظام في تعميق حدة أزمة المهاجرين، من خلال إقدامه على ارتكاب مجازر على أسس طائفية، وملاحقة مجموعات بأكملها من سكان الأحياء، وطرد آخر من تبقى منهم في بعض الأحياء التي تتميز بموقعها الإستراتيجي أو رمزيتها وثقلها، تحت ذريعة القيام بإعادة بناء تلك الأحياء، رغم أن الواقع يؤكد أن ما يفعله يهدف إلى إعادة تشكيل التوازنات الطائفية والعرقية في المناطق التي لا تزال خاضعة لسلطته.
ومن خلال سعيه لتجنيد المواطنين بالقوة، والانتقام من المنشقين الذين هم في أمس الحاجة إليهم للدفاع عن مناطق سيطرته، دفع النظام بطريقة غير مباشرة بالمئات من السوريين نحو الهرب إلى الخارج، وشيئاً فشيئاً كل شخص لا يحتاجه النظام أو لا يريد هو الموت لأجل النظام وجد نفسه خارج البلاد.
كل هذه المؤشرات وغيرها تثبت بأن بشار الأسد تعمد وضع إستراتيجية معينة بشكل مسبق لتأزيم الوضع والعمل بمبدأ “عليَّ وعلى أعدائي”، دون أن يتعرض إلى الآن لأي عقوبات أو ملاحقة قانونية دولية؛ وبالتالي فمن غير المنتظر أن يكف عن هذه الممارسات في القريب، فهي تمكنه من التخلص من السوريين الذين لا يريدهم هو، أحياناً لأنهم من الطائفة السُّنية، وأحياناً أخرى لأن النظام لم يعد قادراً على الاستفادة منهم مادياً.
بالإضافة إلى ذلك فإنه يستعمل هذه الورقة لتهديد الدول المجاورة بإمكانية تصدير المشكلات والفوضى ونحوها، وحتى في أحسن الحالات فهو يعاقبها من خلال إثقال كاهلها بعبء إضافي على اقتصادها، وهو بارع في جر الدول الأقل استقراراً على غرار لبنان نحو حالة من الانقسام الداخلي من أجل تخفيف الضغط على نظامه وخلط الأوراق والأولويات في المنطقة بأكملها.
لذلك فإنه من الضروري القول: إن من غير الواقعي أن نصل لحل جذري للمشكلة التي يمثلها تنظيم “داعش” دون أن نحاسب السبب الرئيس والعميق الذي أدى إلى ظهور هذا التنظيم، خاصة وأن بشار الأسد يواصل حتى اليوم ممارساته التي تدفع بالكثيرين للقدوم من كافة أنحاء العالم للمشاركة في القتال ضده، كما أنه من غير المجدي الإجابة عن تساؤلات الملايين من الضحايا الذين يعيشون في المهجر، أو ثنيهم عن المخاطرة بحياتهم والإقدام على ركوب قوارب الموت، دون وضع نظام بشار الأسد أمام مسؤولياته.
ورغم أنها مرفوضة من قبل الأمريكيين، ولم تحصل على دعم من أصدقاء سورية الراغبين في مساعدتها، فإن فكرة إنشاء منطقة عازلة في سورية لحماية اللاجئين، من خلال حظر الطيران فوقها، تفرض نفسها كحل أخير وأكثر استجابة لرغبة السوريين في العيش بحرية وكرامة عل أرضهم، بدل الذهاب لمواجهة الموت في البحر الأبيض المتوسط، وملاقاته في أغلب الأحيان.
تقرير صحيفة “لوموند” الفرنسية
الرابط: http://syrie.blog.lemonde.fr/2015/04/23/bachar-al-assad-principal-pourvoyeur-des-reseaux-de-passeurs-clandestins/#more-9746