د. إبراهيم أبو محمد
للمكان الذي ولد فيه الإنسان ونشأ وتربى في ظله أثر بالغ في تكوين شخصيته ورسم ملامحه وتحديد قسماته، بل وتحديد اتجاهات خريطة وجدانه في الحب والكره، والرضا والغضب، والتعصب والتسامح.
فإذا كانت البيئة الحاضنة لهذا الإنسان في مكانها مهاداً للعز ومستودعاً للرجولة ومصنعاً للفخار والمجد، كان ارتباط الإنسان بها أكبر واعتزازه بها أشد وأعمق، وكانت آثارها واضحة في ثقافته وسلوكه، ومن ثم تكون ذكرياته فيها ليست مجرد جزء من الماضي، وإنما تكون حاضرة معه، لا تغيب عنه ولا تفارقه، تسافر معه حين يسافر، وتصحبه في فكره وخياله وفي حله وترحاله، وخطابها هو خطاب الحاضر الحي المأنوس.
بالطبع الغربة النفسية ليست فقط في البعد عن البلد الأصلي ومفارقة الوطن، وإنما يمكن أن تتحقق الغربة النفسية في عزلة الإنسان عن بيئته وثوابته وقيمه الأصيلة، ولذلك قالوا: “أغرب الغرباء من كان غريباً في وطنه”، ولعل الشاعر شوقي عاش بحسه ووجدانه معاناة الغربة النفسية حين عبر عن نوازع الإنسان وحنينه لوطنه ولو كان في عالم الخلد فقال:
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيلٍ ظمأٌ للسواد من “عين شمس”
شهد الله لم يغب عن جفوني شخصه ساعةً ولم يخلُ حسي
يصبح الفكر و”المسلة” ناديه و”بالسرحة الزكية” يمسي
وكأني أرى الجزيرة أيكاً نغمت طيره بأرخم جرس
وأرى “الجيزة” الحزينة ثكلى لم تفق بعد من مناحة (رمسي)
أكثرت ضجّة السواقي عليه وسؤال اليراع عنه بهمس
عند أمير الشعراء شوقي في مخاطبة المكان تصبح الذكريات هي لسان الزمن وترجمان التاريخ وصدى السنين الحاكي، كما يقول في جارة الوادي:
يا جارة الوادي طربت وعادني ما زادني شوقاً إلى مرآك
فقطّعت ليلي غارقاً نشوان في ما يشبه الأحلام من ذكراك
مثلتُ في الذكرى هواك وفي الكرى لما سموت به وصنت هواكِ
ولكم على الذكرى بقلبي عبرة والذكريات صدى السنين الحاكي
ولقد مررت على الرياض بربوة. كم راقصت فيها رؤاي رؤاكِ
لم أدر ما طيب العناق على الهوى والروض أسكره الصبا بشذاكِ
لم أدر والأشواق تصرخ في دمي حتى ترفق ساعدي فطواك
ودخلت في ليلين: فرعك والدجى والسكر أغراني بما أغراك
فطغى الهوى وتناهبتك عواطفي ولثمتُ كالصبح المنور فاكِ
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت قلبي بأحلى قبلة شفتاكِ
وبلغت بعض مآربي إذ حدّثت عيني في لغة الهوى عيناكِ
سمراء يا سؤلي وفرحة خاطري جمع الزمان فكان يوم لقاك
جارة الوادي هنا ليست امرأة تعلق قلب الشاعر بحبها فعشقها حتى الجنون، الشاعر هنا يخاطب المكان ممثلاً في لبنان، لكنه يجسد لغة العشق تجسيداً حتى يخيل إليك أنه يتحدث عن محبوبة جمعت الأيام بينهما بعد شوق قد ازداد كمه بين المشتاق ومن يشتاق إليه بُعداً في مسافة أو تساميا في الاعتبار.
لغة الشاعر قد ارتفعت بالحب لتتسع للوطن كأساس في العشق ولتتجاوز النوع البشري لتشمل المكان والزمان والحدث.
التاريخ إذن هو الذاكرة التي تحتوي الناس والزمان والمكان والأحداث، وغياب حقائقه عن الوعي الذاتي شيء خطير، لأن ذلك يعني ببساطة شديدة تعطيل الحواس كلها، وفقدان الذاكرة والوقوف على عتبة الجنون، ومن ثم تكون العشوائية والتخبط والخلط بين الماضي والحاضر، ثم يكون العجز عن تصور المستقبل واستحضار معالمه فضلاً عن التخطيط له.
وفي أحداث التاريخ سعد ونحس، ومد وجزر، وانتصار وانكسار، وهذه الثنائيات لا تنشأ مصادفة أو من فراغ، وإنما يصنعها الإنسان بإرادته وعمله.
وتجارب السابقين كجزء مهم في التاريخ رصيد ملزم للاحقين ينظرون فيها فيتجنبون ما وقع من أخطاء، ويستفيدون مما وقع فيها من انتصارات وانكسارات.
قال تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ {26}) (السجدة).
وقال سبحانه : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى {128}) (طه).
ولقد تعلم المسلم من دينه أن الطبيعة لا تعرف الفراغ، ومواقع التأثير والتغيير والتحويل والتبديل التي تؤثر في قيادة الناس وصناعة الأحداث لن تظل شاغرة في أنظارك حين تتركها أنت بالزهد البارد أو التواضع الموهوم، ولكن سيشغلها غيرك، وربما يفرض عليك قيمه ورؤيته، ومن ثم فموقع المسلم الحقيقي في الأحداث هو موقع الفاعل المؤثر، وليس موقع الغائب أو المتفرج، أو من يقف على هامش الأحداث ليشاهد من موقع المتفرج (حزب الكنبة)، وباندهاش عملية المد أو الجزر، كلا، المسلم ليس كذلك، إنه رجل آخر، إنه هو الذي يحرك التاريخ ويدفع به إلى الأمام، ويصنع من خلال إرادته وقراره الحر عملية المد للحق والجزر للباطل، لأنه يدرك من خلال دينه أن مهمته أن يوسع دوائر الخير في الناس والأشياء، وأن يقلص ويضيق دوائر الشر في الناس والأشياء، لذلك رأينا على مدار التاريخ رجالاً يؤثرون فيه، بل ويصنعونه لأمتهم ويخلدون من خلاله مواقفهم.
أمثال هؤلاء الرجال يربط القدر بمواقفهم مصائر الأمم ومقدرات الشعوب.
وصناعة التاريخ مهمة الأبطال دائماً، وعناصر تكوينه زمن وأحداث ورجال:
الزمن وحدات زمنية تقدر بالشهور أو بالسنين.
والأحداث مواقف ومواقع وأفعال تقع في تلك الوحدات الزمنية وتستوعبها وتؤثر فيها بالإيجاب أو السلب، والمد أو الجزر والنهضة والتقدم، أو التخلف والتراجع.
أما الرجال فهم الفاعل لهذه الأحداث ولهم فيها مواقف ولهم فيها مواقع.
والرجال الذين يصنعون التاريخ بمواقفهم تحركهم عقائد وتدفعهم إلى قمة القيادة مبادئ يعيشون بها ويعيشون لها، يعيشون بها التزاماً وسلوكاً في حياتهم، ويعيشون لها عطاء وتضحيات تصل في كثير من الأحيان إلى حد المخاطرة الجريئة بالنفس والحياة في سبيل المبادئ، وتلك أولى درجات سلم التغيير من حال إلى حال.
أن تكون وفياً للمبدأ، والوفاء للمبدأ يقتضي أن تكون الفكرة أنت، والمبدأ أنت، مجسماً ومجسداً في سلوكك وخلقك.
أن تستعلي به على عوامل الرغبة والرهبة.
ألا تبيعه في أول مساومة، وألا تتركه وتتخلى عنه في أي صدام.
أن تكافح دونه في كل موقع.
أن تعلي رايته في كل درب، وألا تتخلى عنه أبداً، ولو بُدِّلْتَ من سعة الحياة ورفاهية العيش قضبان السجن أو حتى مقصلة الموت.
ذلك هو الموقع المشرق الذي نلوذ به في مناسبة تحويل القبلة حين يستدعيها الزمن من ذاكرة التاريخ.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً رفيعاً ورائعاً في الوفاء للمبدأ حين استعلى بدينه على عوامل الرغبة والرهبة، وأعلن في وضوح تام أنه لن يفرط فيه ولن يتخلى عنه ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره حتى يظهره الله أو يهلك دونه.
إصرار جدير بالإعجاب والتقدير من أصدقاء المبدأ ورفاق القضية، ومن أعدائه والمخالفين له على حد سواء.
وهذا الإصرار الرائع هو الذي دفع عمه أبا طالب ليدرك من خلال مواقف ابن أخيه أنها عقيدة لا تباع بملء الأرض ذهباً، ولن يتخلى عنها صاحبها ولو بدل من سعة الأرض قضبان السجن أو حتى مقصلة الموت، فلن يتحول متاجراً بها أو مساوماً بمبادئها على كل حال.
فهل الجميع على استعداد للتضحية والفداء؟
سؤال كان لا بد للواقع الجديد في الموطن الجديد (المدينة) من أن يجيب عنه في امتحان بالغ الشدة، حيث في كل دعوة للإصلاح ينتشر تجار الشعارات الذين يركبون الموج في كل مد ويبيعون ضمائرهم في كل سوق.
الشدة دائماً تظهر الفروق الجوهرية بين عشاق المبادئ وطلاب المغانم.
بين الرجال الذين يظهرون في المحن والشدائد، وبين الإمعات وأنصاف الرجال الذين يرقصون على الجراح، وينوحون في كل مأتم، ويطبلون ويزمرون في كل فرح، ويأكلون على كل مائدة.
نعم إنها فتنة تنقي الصفوف وتفرق بين الصادق والكذوب، وبين عشاق المبادئ وطلاب المغانم.
وطبيعة المجتمع الذي تربى في ظله المهاجرون أنه مجتمع قبلي يمارس الموروث الاجتماعي فيه دوراً كبيراً وخطيراً في رسم خريطة الوجدان وارتباطاتها العاطفية بالمكان والزمان والأشخاص حباً وكرهاً، إيجاباً وسلباً، ومن ثم فالمهاجرون رغم غلبة العقيدة الجديدة في نفوسهم وانتصارها على كل العوامل والمؤثرات، فإنهم لا يرون غضاضة أو تناقضاً بين عقيدتهم الجديدة وبين الموطن الأصلي، وبخاصة أن مكة أحب بلاد الله إلى الله، ثم هي مسقط الرأس، وهي محضن الطفولة وموطن الذكريات، وهي أم القرى، وفيها الكعبة المشرفة قبلة العرب، وبيت أبيهم إبراهيم، ومقصد الناس من كل لون، وبها يرتبط شرف الآباء والأجداد، وقلوب الناس وأفئدتهم تهوى إليها، ويقصدونها من كل البقاع وفي كل عصر، ومن ثم فهم يرتبطون بها أرضاً وتراباً وتاريخاً وقبيلة ونسباً.
ولقد لاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وأراد أن يحبب إليهم الموطن الجديد؛ فدعا بالبركة للمدينة وثمارها، وقال فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: “اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، ألا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم اجعل لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين، والذي نفسي بيده، ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها”، ثم قال للناس: “ارتحلوا”؛ فارتحلنا، فأقبلنا إلى المدينة. (رواه أبو سعيد الخدري في صحيح مسلم 1374).
وبما أن المهاجرين إلى المدينة هم البذور الأولى التي تحمل أنوار التوحيد وإشراقات رسالة الخير والخلق العظيم في كل مكان وإلى كل بقعة من أرض الله الواسعة، لذلك يجب إعدادهم إعداداً خاصاً يخرج بهم عن مألوف ما يعيشه الناس وما يتعرضون له من الدوافع والبواعث، وما ينتج عنها من تأثيرات العادة أو العرف الاجتماعي، أو الموروث الضاغط الذي يؤثر في السلوك والعقل، ويشكل الوجدان لدى عموم الناس، ومن ثم كان التوجه في الصلاة إلى بيت المقدس بمجرد وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كنوع من التربية التي تحرر وجدان الإنسان من أسر التقاليد.
وظل التوجه إلى بيت المقدس قرابة سبعة عشر شهراً، وبعدها أمر الله نبيه أن يعود إلى بيت الله الحرام.
يقول العارفون وأهل الذوق: إن لله غَيْرَة، أن يرى في قلب محبه غيره.
فكأن الله جل جلاله أراد لهذه القلوب أن تخلص فتستخلص، وأن تصفو فتستصفى.
ومن ثم كان هذا الدرس في تربية الولاء بعيداً عن كل تأثيرات الأرض وما عليها ومن عليها، ولكي يكون ارتباط القلوب بالله بغير منافس، ولو كان بيت الله الحرام.