دق هاتفه أكثر من مرة وهما جلوس عندي، رد على بعضها وتجاهل الأخرى، حتى إنها أظهرت ضيقها من ذلك قائلة: لا أريد أن أعكر صفو جلستنا مع الدكتورة، ولكن بمناسبة هذه الاتصالات الكثيرة عليه والمتكررة في معظم أوقاته حتى وهو معي؛ ما رأيك فيها؟
قلت: فيما بالتحديد؟ هل كثرة الاتصالات عليه؟ أم أنه رد على بعضها ولم يرد على الأخرى؟ أم ماذا بالضبط؟
قالت: لا أدري، أشعر معه أنه مشغول عني بأصدقائه أو الانشغال برغبات أصدقائه ومعارفه الكثيرة.
قال: هكذا يا دكتورة تريد أن تحتكرني لا تريد لي تواصلاً وعلاقات وتعاملات مع أصدقائي ومعارفي.
قالت: ليس هذا مقصدي، لكن حجم أصدقائك يفوق أقاربك.
قال: وأنت.. أليس لك أصدقاء؟
قالت: نعم لي، ولكن ليس بهذا الشكل والحجم والعدد.
قلت حاسمة مناظرة تعدد الأصدقاء بينهما: هل انتهيتما؟
قالا: نعم ونعتذر.
قلت: هؤلاء هم المختارون.
نظرا لبعضهما قائلَيْن: ومن المختارون؟
قلت: أي الأصدقاء، فإن للأصدقاء المختارين ممن حولنا في حياة الإنسان دوراً جوهرياً خاصة في إحدى مراحل نموه، والذي يعتبر فيها الصديق هو مصدر الثقة الأول بالنسبة لتلقي المعلومة أو النصيحة، ثم يكن بالنسبة للإنسان بعد ذلك جزءاً داخل إطار شخصيته بشكل كبير أو على هامش وحدود إطار الشخصية، وهذا هو أحد أسباب المشكلات بين الزوجين.
قالت: كلنا هكذا؟
قلت: من ناحية وجوده؟ نعم.. لكن من ناحية دوره وتأثيره فلا، فيختلف كل منا كما ذكرت إما على هامش حياته أو داخل حياته نفسها.
قال: هل يستطيع الإنسان أن يمر بمراحل نموه حتى الشباب دون أصدقاء؟
قلت: لا مستحيل أن يعيش الإنسان بدون رفيق سواء من داخل العائلة، ويتخذه صديقاً أو من خارجها، لكن الاختلاف دائماً ليس على وجوده بل على حجم وجوده وتأثيره.
قالت: ممكن في الكبر يُستغنى عنهم؟
رد ممتعضاً: تريدين حتى في الكبر أن تحجرين على صداقاتي؟
هوِّن على نفسك، وصادق من أحببت.. قلتها مازحة له.
قالت: هو يفهمني خطأ في بعض المواقف، ولا أريد ما زعمه عني الآن، بل العكس أحب الأصدقاء جداً.
قلت: سنحل اللبس في الفهم والإشكالية النفسية الآن.
قال مستنجداً: ونحن في أمس الحاجة لهذا.
طبيعة تقبل الأصدقاء
قلت: كما ذكرت أن للأصدقاء دوراً محورياً في حياة كل إنسان، إلا أن لكل منا طبيعة نفسية، فمنا من تقبل أكثر من صديق وصديق، وطبيعة أخرى تكتفي، وقد لا تسمح بدخول أي صديق جديد إلا بصعوبة بالغة بعض الشيء.
قال: كيف؟ وهل الصداقة أمر يتم التحكم فيه؟ أصادق أو لا أصادق، وأنه أمر غير إرادي من الشخص في ميله للآخرين؟
قلت: نعم يتم التحكم فيه أحياناً مثلاً حينما يحل الإنسان على مكان جديد أو في حضور أناس جدد، فبعض منا من يألف بسرعة الحضور والمحيطين به، بل يسعى للتعرف على معظم الموجودين.
قال: صحيح.
أكملت: وهناك من يجلس وحيداً لا يريد أن يتكلم مع أحد وليس لديه استعداد أن يجري صداقة جديدة، فهو جاء لهذا المكان لهدف، فهو مكتفٍ بما لديه ولا يستجيب لأي محاولات عميقة للتعرف عليه بل في حدود تواجدهم في هذا المكان وفقط، لكن كأمور شخصية فلا، على العكس من الأول الذي يخرج من المكان وكأنه يعرف بعضاً منهم منذ زمن بعيد.
قالت: نعم صحيح.
قال: وما الخطأ في ذلك؟
قلت: أنا لم أخطِّئ أحداً منهم على الإطلاق، ولكنني أوصف الحالة النفسية في الصداقة.
قالت: نعم أكملي يا دكتورة.
دائرة الصداقة
قلت: للتوضيح أكثر؛ هناك شخص لا يستجيب بسهولة إلا بعد محاولات من الطرف الآخر، ويبدأ في إزالة الحواجز النفسية حتى يدخل دائرة أقرب من الدائرة الأولى من ناحية السماح له أن يكون على أعتاب الصداقة، وآخر يكون الرد على قدر السؤال، وهو مقرر ألا يدخل أحد حياته ليخترق خصوصياته، هكذا الصداقة عنده عميقة وليست هامشية، أو صديق لا يرتاح له هو يعتبره فضولياً حينما يريد أن يحاوره وهو من داخله رافض.
قال: وأين تكمن المشكلة، كل له أصدقاؤه وحياته الشخصية فهي حرية لا حجر على أحد؟
قالت: كيف لا تكون مشكلة وهي تستحوذ على حقوق الآخرين معك؟ يعني الصديق أحياناً يعلو دوره عن كونه مستشاراً لك في أي مشكلة إلى دور أساسي يصل إلى تجاهل أطراف المشكلة وتلجأ له بداية، وقد تأخذ برأيه ولا تأخذ بمن يخصهم الأمر أصلاً، فكيف لا تكون مشكلة إذاً؟
صداقة أفقية ورأسية
قلت: المشكلة في أن الشخص الذي تمثل الصداقة شكلاً أفقياً مع من صداقته بشكل رأسي دائماً يتقاطعا أو يتصادما.
قال: لماذا؟
قلت: لأن الرأسي عميق الصداقة جداً محدود العدد، وقد يكتفي بالعائلة إن وجد من يغطي احتياجاته الفكرية والشخصية، ومخلص جداً في صداقته يعمقها جداً بتفاصيل حياتية والوقوف معه لأقصى درجة، لكن من يستحوذون على هذه المنزلة عنده قليلون، وحينما يقرر أن يخرجه من حياته فمن الصعب رده عن قراره، أما الأفقي هامشي كثير العدد يجاري هذا ويجامل غيره ويصادق آخر ولا يستطيع العيش بدون مجموعة أصدقاء حوله.
قال: هكذا الحياة قد تصبح جحيماً، أعتقد ذلك إن اقترن اثنان من هذا ومع ذاك.
قلت: لماذا هذا التشاؤم، الأمور لا تحسم هكذا، بل العكس قد لا تنسجم الأمور إذا كانوا مثل بعض تماماً؛ لأن لكل منهما تغريداته وصداقاته الكثيرة مثلا خارج إطار الأسرة، فمن يلملم أركان الأسرة ويتابع أفرادها ويربيهم؟
التوفيق بين الصداقات
قالت: إذاً كيف نوفق بين صداقة تتسع أفقياً مع صداقة تتسع رأسياً؟
قلت: منذ القدم وأيام جداتنا وبدون علم كانت الزوجة مرنة مع طباع زوجها حينما تكتشفها بفطرتها؛ وبالتالي بادلها الزوج التكيف معه طباعها؛ أي التكيف أمام المرونة بين الزوج والزوجة هو الأساس في كل علاقة.
قالت: لماذا إذاً على الزوجة أن تبدأ وتقدم وتتنازل بداية والعيب دائماً عليها؟
قلت ضاحكة، وأنا أنظر رد فعله على كلامها: لأن الرجل في البداية كالصياد، اختارك أنت من بين البنات ومن حوله ليقيم أسرة وكياناً مبنياً على علاقة محبة وود، ثم على الزوجة أن تحافظ على هذا الكيان، ثم يتبادلان أدوار المرونة والتكيف مع بعضهما حتى تسير سفينة أسرتهما بسلام.
قال: الحمد لله، ها قد قمت بما عليَّ واخترتها، والآن دورها في الحفاظ على هذا الاختيار، ولقد قمت بدور الصياد وعليها أن تستكمل هي الدور.
قالت مازحة: هكذا الأمر.. صياد وسمكة؟
قلت: لا.. صياد وطباخ.
ضحكا في صوت واحد: هكذا آخر الزواج.. صيد وطبخ؟
قلت لهما: لا.. بل زواج سعيد أدامه الله عليكما في ظل طاعة الله.