من يدفع فاتورة الاعتراف الدولي بنظام “السيسي”؟
الأسئلة المحرمة في الصفقة لن يجيب عنها برلمان مؤجل في ظل استحالة مراجعة العقود بقوة القانون
من صفقة المقاتلات الفرنسية الراكدة “رافال” لصفقة إنقاذ شركة “سيمنز” الديناصور الألماني المنهار، تقفز في الأذهان أسئلة بلا إجابة واضحة: هل يبحث نظام “السيسي” عن مخرج لأزمة الاعتراف الدولي به عبر صفقات خاسرة؟ ومن سيدفع فاتورة هذا الاعتراف إذا كانت الموازنة العامة للدولة تميل كفتها لصالح العجز؟
لا عيب إطلاقاً في السعي لاقتناء أفضل التقنيات في كل المجالات، ولاسيما إذا كان هذا المجال تعاني فيه الدولة عجزاً فادحاً مثل الطاقة، ولاسيما إذا كانت التقنيات النووية التي تعد حلاً مثالياً محرمة على الدول النامية الفاقدة لإرادة الاستقلال، غير أن الدول في مثل هذه الصفقات تسعى لتحسين شروط الشراء، والبحث عن بدائل تجعل البائع يجري وراء المشتري، أما إذا كانت الشركة مؤثرة في قرار دولة، بل أحياناً تكون هذه الشركة هي الدولة، فإن العكس هو الصحيح، فما قيمة كوريا الجنوبية مثلاً بدون “هيونداي” و”ال جي”؟ وما قيمة أمريكا بدون “مايكروسوفت” أو “هالبيرتون”؟
الشركات العملاقة العابرة للقارات، هي الدولة، والصفقات معها هي التي تصنع القرار السياسي وليس العكس، خاصة إذا كان القرار السياسي لدولة مثل ألمانيا مؤثراً وقائداً لقرار الاتحاد الأوروبي بأكمله.
أما الصفقات المجردة من أي توجهات خفية، فهي تحدث في حالة السعي المجرد للمنفعة العامة وحدها، لكن إذا كانت الصفقات تتم على طريقة “كسب” الود من أجل أشياء أخرى غير النفع العام، فإن الألغاز المحيطة بها تظل تطل برأسها باحثة عن إجاباتها التائهة.
صفقة “سيمنز”
وصفقة الحكومة المصرية مع شركة “سيمنز” الألمانية كانت موضع حديث وحسد مجتمع الأعمال العالمي على الشركة المأزومة، حيث توجت زيارة عبدالفتاح السيسي لـ”برلين” بعقد ضخم بقيمة ثمانية مليارات يورو (ما يعادل 9 مليارات دولار) في مجال الطاقة، حتى وصفتها وكالات الأنباء العالمية بأنها أكبر “طلبية” تبيعها الشركة في تاريخها على الإطلاق، وتتعلق بمجالات الغاز الطبيعي وتوليد الطاقة من الرياح، مؤكدة أنها ستزيد إنتاج الكهرباء بنسبة 50%.
وزارة الكهرباء من جانبها تقوم حالياً بإعداد مذكرة إلى مجلس الوزراء للموافقة على المشروعات التي سيتم تنفيذها بالأمر المباشر، عقب اجتماع د. محمد شاكر، وزير الكهرباء والطاقة، مع مسؤولي شركة “سيمنز” بمقر وزارة الكهرباء، تم خلاله استعراض الإجراءات التي سيتم اتخاذها للبدء فوراً في إنشاء المشروعات بداية من الشهر المقبل يوليو انطلاقاً من مجمع كهرباء بني سويف الذي يعد جاهزاً للتشغيل الفوري.
تفاصيل الصفقة تقول: إنها تشمل إقامة 3 مجمعات كبيرة لإنتاج الكهرباء بقدرات إجمالية 13.2 ألف ميجاوات بنظام الإنشاء والتصميم والتمويل، وتتولى وزارة الكهرباء المصرية سداد التكلفة على عدة سنوات، سيتم الاتفاق عليها في العقود التي ستوقع بين الطرفين.
وبحسب المعلومات، فإن عرض الشركة الألمانية يتضمن إقامة مجمع كبير لتوليد الكهرباء بمحافظة بني سويف بقدرة إجمالية 4400 ميجاوات، يتم إنتاج ثلثها بدون وقود، وبالاعتماد على عادم الوحدات الغازية.
ويقول خبراء طاقة: إن تكلفة مجمع كهرباء بني سويف وحده سوف تلتهم نحو 20% من مبلغ العقد، بما يعادل ملياري يورو، ومن المقرر الانتهاء من تنفيذ المجمع الجديد نهاية صيف العام المقبل.
ويتضمن عرض الشركة الألمانية كذلك إقامة مجمعين لإنتاج الكهرباء بقدرة 4400 ميجاوات لكل مجمع والمواقع المرشحة لهما تشمل موقعاً بالعاصمة الإدارية الجديدة لمصر (التي وقعت خلافات مؤخراً بين الشركة المنفذة لها والحكومة، مما يهدد المشروع بالتوقف)، فيما سيكون الموقع الثالث والأخير في هذه الحزمة، إما في منطقة البرلس بمحافظة كفر الشيخ وإما في النوبارية.
تساؤلات ألمانية
وبالنظر إلى التساؤلات المشروعة سالفة الذكر، فإنها لا تنبع فقط من معارضي نظام السيسي، بل تأتي من الإعلام الألماني نفسه، فقد سلطت صحيفة “هاندلسبلات” الألمانية، الضوء على السبب الذي أجبر المستشارة أنجيلا ميركل، على تجاهل الانتقادات التي توجه إلى مصر، والمتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان ومقابلة عبدالفتاح السيسي في ألمانيا.
وأضافت الصحيفة، في سياق تقريرها المنشور عبر موقعها الإلكتروني، بأن شركة “سيمنز” العملاقة، المتخصصة في الهندسة الطاقية والإلكترونية، حصلت على عرض مصري بإنجاز مشاريع تصل قيمتها إلى مليارات اليوروهات الأمر الذي دفع الشركة للضغط على الحكومة الألمانية للقبول باستقبال السيسي، في إطار زيارة رسمية، بهدف توقيع عقد تبلغ قيمته 8 مليارات يورو، مع رئيس شركة “سيمنز” جو كيسر.
وقالت مجلة “دير شبيجل” الألمانية ذائعة الصيت: يبدو أن الحكومة الاتحادية (الألمانية) تخلت – مقابل عملية تجارية مع شركة “سيمنز” – عن وسيلة ضغط من أقوى وسائل الضغط لديها، فهي استقبلت السيسي الآن وجعلته بذلك شخصية مقبولة على الصعيد الدولي؛ ما يهم السيسي هو إضفاء الشرعية، أي تلك الصور التي تأتي من برلين وتضفي الشرعية على العسكري السابق، الذي يحكم مصر بوحشية لم تكن سائدة حتى في عهد حسني مبارك، دعوة ميركل هي عبارة عن ضوء أخضر للمستثمرين العالميين، ويعني ذلك: نحن الألمان نعتمد على الحكام المستبدين الجدد، إن ذلك بمثابة صفعة موجهة لليبراليين المصريين.
وألمحت المجلة إلى أن الأموال التي يعتزم السيسي صرفها خلال السنوات المقبلة، حصل عليها من بعض دول الخليج، وخاصةً المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، حيث قدمتا دعماً سخياً لنظامه.
ويرى المراقبون أن في ظل عدم وجود محاسبة برلمانية للحكومة، وانعدام إمكانية مراجعة العقود لا يمكن معرفة مصير الديون المترتبة على مثل هذه الصفقات ولا كيفية سدادها، فطبقاً للقانون المصري، لا نستطيع أن نعرف لا تفاصيل العقد، ولا قيمته، حتى نقارنه مع الشركات العالمية، وكذلك لو عرفنا فالقانون يمنع الطعن على العقود المبرمة من الحكومة الحالية، مهما كانت العيوب التي تشوب العقد.
شبهات الفساد
غير أن هناك جانباً آخر مهماً في المسألة، حسب المراقبين، فشبهات الفساد المالي تحيط بشركة “سيمنز” الألمانية التي أبرمت معها الحكومة المصرية صفقات حول الغاز وتوليد الطاقة من الرياح، لها عدة سوابق في دفع رشى للاستحواذ على صفقات في دول عربية، فقد اعترفت “سيمنز” بأنها دفعت رشى لمسؤولين في عدة دول منها دولة عربية خليجية لترسية مشاريع عليها، وتنفيذها في تلك الدول، وفي يوليو 2007م، عثر مراجعو حسابات “سيمنز” على مدفوعات غير قانونية يعود تاريخها إلى مطلع التسعينيات من القرن الماضي وتبلغ قيمتها أكثر من مليار يورو، أثناء تدقيق محاسبي للمؤسسة الصناعية الألمانية العملاقة، في إطار تحقيق بشأن قضية فساد تم خلالها دفع أموال كرشى من أجل ضمان حصول الشركة على عقود.
وقالت صحيفة “سوديشته” الألمانية الصادرة آنذاك: إن محامين أمريكيين ومدققي حسابات وجدوا أن المدفوعات تتعلق بوحدتي الاتصالات وتوليد الطاقة في الشركة.
وأضافت أن الأموال محل التساؤل بلغ مجموعها أكثر بثلاثة أضعاف ما كان يعتقد من قبل، ونقلت عن مديرين بارزين في الشركة وصفهم لتلك المبالغ التي جرى إنفاقها بأنها مبالغ تدعو للصدمة، وأضافت أن حوالي 900 مليون يورو تخص وحدة الاتصالات مقابل 420 مليوناً كانت “سيمنز” قد اعترفت بها من قبل، بينما تراوحت المدفوعات غير القانونية في وحدة توليد الطاقة ما بين 250 – 300 مليون يورو.
وفي يونيو 2011م، أعلنت شركة “سيمنز” العملاقة عن اكتشافها أدلة على فساد في أنشطتها بالكويت، وأنها أبلغت السلطات الكويتية بذلك، وقال متحدث باسم الشركة: اكتشفنا القضية بأنفسنا وأبلغنا السلطات واتخذنا إجراءات عقابية، واعتقلت السلطات القضائية بمدينة ميونيخ الألمانية اثنين من مديري الشركة على خلفية الاشتباه في تورطهما في قضية رشى تتعلق بمشاريع الشركة في الكويت، وكانت الشركة الألمانية قد وافقت في عام 2008م على دفع 800 مليون دولار لإغلاق تحقيق في الولايات المتحدة حول مزاعم دفعها رشى لسنوات للحصول على عقود.
وتعمل “سيمنز” في الكويت منذ نصف قرن في مجالي الصناعة والطاقة، حيث أنشأت نحو 100 محطة صغيرة لتوليد الكهرباء، فضلاً عن محطة طاقة تعمل بتوربينات الغاز تبلغ طاقتها 1500 ميجاوات، وقد ناهزت مبيعات الشركة لعملائها بالكويت 328 مليون دولار برسم السنة المالية 2010م.
وأثيرت القضية داخل البرلمان الكويتي، بعد أن توجه النائب عادل الصرعاوي بأسئلة برلمانية إلى كل من وزراء الكهرباء والماء، والعدل ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، والمواصلات، والنفط عن هذا الموضوع، وكانت وزارة الكهرباء الكويتية شكلت “لجنة محايدة” لدراسة عقد محطة نقل كهرباء تم سحب من شركة “توشيبا” ومنحه إلى شركة “سيمنز” إثر قيام حملة إعلامية شرسة ضد “توشيبا” ووكلائها في الكويت، بدعوى أن “سيمنز” هي التي تقدمت بأقل الأسعار.
ونقلت صحيفة “فايننشال تايمز” آنذاك عن مصادر قريبة من التحقيق في القضية قولها: إن التحقيق يشمل محاولة مديرين سابقين في الشركة رشوة مسؤولين في وزارة الكهرباء والماء بمبلغ 1.8 مليون دولار للحصول على عقود.