أعترف أني لست من المعجبين بأسلوب مقدم البرامج في قناة “الجزيرة” أحمد منصور، فاستفزازه لضيوفه وإحراجهم، بل وحتى محاولاته للتقليل من شأنهم في بعض الأحيان، يذهب بحلاوة الحصول على المعلومة من الضيف، رغم أهميتها!
ومن باب الإنصاف، أعترف كذلك أن سلسلة لقاءات منصور الأخيرة مع الشيخ عبدالفتاح مورو في برنامج “شاهد على العصر” الذي تعرضه قناة “الجزيرة” قد جعلتني أغير بعض رأيي في أدائه الإعلامي، ليس لأن الرجل قد غيَّر من أسلوبه الاستفزازي طواعية، ولكن قوة حضور الضيف العتيق (دعوياً) روَّضت المقدم المشاكس وجعلته رغماً عنه يسير على سكة القطار التي رسمها له مورو!
ولكني وقد رأيت أخيراً أحمد منصور في غرفة احتجازه الصغيرة متقاربة الجدران في مطار برلين الدولي وهو يدلي بتصريح محسوب عليه بالحرف الواحد وبصوت خافت تحس منه الخوف (على غير عادته!)، فإني لم أكن أشاهد أحمد منصور الإعلامي في قناة “الجزيرة” وهو معتقل بل كنت أرى موقعة الظلم “السيسية” الانقلابية تعاد أمامي مرة ثانية، أشم فيها مسك شهداء رابعة وألمس فيها جبن الانقلابيين وحرصهم على تنفيذ أوامر أسيادهم وأشاهد لي أعناق الوقائع ليظهر الجرم وكأنه إعادة لموازين الأمن والعدل.
من هنا لم يكن منصور يمثل نفسه، ولكنها منازلة أخرى بين جرم السيسي وحق المصريين الشرفاء باستعادة شرعيتهم، بل إنسانيتهم!
لقد كان هناك سيناريوهان لقضية أحمد منصور، كل منهما يحمل عناصر معينة تجعله قابلاً للتحقيق خاصة مع المواقف الدولية المتذبذبة:
الأول: تنفيذ السلطات الألمانية لمذكرة التوقيف الصادرة من الإنتربول وإرسال أحمد منصور إلى مصر، ومن الشواهد التي كانت تعين على مثل هذا التوجه قوة الصفقة التجارية التي عقدها السيسي مع شركة “سيمنز” الألمانية في زيارته الأخيرة لهم بقيمة 8 مليارات يورو! وقد تسربت أخبار على هامش الصفقة تشير إلى أن هذه الصفقة تستند إلى صفقة سياسية كان منصور أولى ضحاياها، خاصة وقد بدت بعض بوادر هذا التوجه من خلال ما أعلنه الألماني فضلي آلتن، محامي الصحفي أحمد منصور، من أن السلطات القضائية الألمانية رفضت الإفراج عن موكله بكفالة، وأكد متحدث باسم المدعي العام في برلين أنه يتعين بقاء منصور في الحجز.
الثاني: رفض السلطات الألمانية لمذكرة الاعتقال وإطلاق سراح أحمد منصور، وكان هذا هو التوجه الأرجح لأسباب منها:
1- ما أعلنه المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية رداً على سؤال عن مذيع قناة “الجزيرة” أحمد منصور الذي احتجز في برلين بناء على طلب من مصر، إن ألمانيا لن ترحل أحداً يمكن أن يواجه عقوبة الإعدام، حيث قال مارتن شيفر، المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية في مؤتمر صحفي: بالتأكيد لن يجري ترحيل أحد من ألمانيا يمكن أن يواجه عقوبة الإعدام بالخارج.
2- التظاهرات “المعتبرة” أمام المحكمة الألمانية والتي حملت صور منصور وأعلام فلسطين ورفعوا شعارات منددة بالحكومة في مصر.
3- الاحتجاجات والمقالات التي ظهرت في الصحافة الدولية عامة والألمانية خاصة حول حرية الصحافة وحقوق العاملين فيها.
فنطالع مثلاً مقالا نشرته صحيفة “الإندبندنت” البريطانية للكاتب روبرت فيسك بعنوان “هل اعتقدت برلين أن اعتقال أحمد منصور فكرة جيدة؟” حيث قال فيسك: إن توقيف أحمد منصور الصحفي المصري في قناة “الجزيرة” القطرية في برلين يعد ضربة بيروقراطية موجعة لحرية الصحافة وللمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ولألمانيا الديمقراطية.
وتساءل فيسك في مقاله: من قرّر إلقاء القبض على أشهر صحفيي قناة “الجزيرة” في مطار تيجال في برلين؟ مضيفاً أن توقيف منصور جاء اعتماداً على مذكرة صادرة من نظام حكَم على رئيسه المنتخب شرعياً بالإعدام؟ وأشار كاتب المقال إلى أنه ليس كافياً أن يطالب منصور ومحاميه وقناة “الجزيرة” نفسها بإطلاق سراحه، بل يجب على ميركل أن تزودنا بتفاصيل هذا الإجراء!
وتطرق فيسك إلى الاجتماع الذي جمع بين ميركل والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي منذ أسابيع، مشيراً إلى أن السيسي وصل إلى سدة الرئاسة بحصوله على 96.1% من أصوات الناخبين، وعلق ساخراً على هذه النسبة بأنه لو كان “أدولف هتلر حياً لشعر بالغيرة من السيسي لحصوله على هذا الكم الهائل من الأصوات!”.
4- تدخل وزارة العدل الألمانية والمدعي الألماني بنفسه لإنهاء هذه القضية التي ظهر فيها أن الأبعاد السياسية واضحة وجلية أكثر من غيرها بعيداً عن تهم الاغتصاب والتعذيب المثيرة للسخرية والتي تضمنتها لائحة اتهامات السيسي المقدمة إلى الشرطة الدولية.
5- التصريحات السياسية للأحزاب الألمانية، فقد صرح المتحدث باسم الحزب الاشتراكي الألماني للشؤون الخارجية نيلز آنين بأن إيقاف منصور يفتح العديد من الأسئلة على الحكومة الألمانية، وليس من المقبول أن تكون برلين أداة بيد القضاء المصري، كذلك أكد عضو بالحزب المسيحي الديمقراطي (الذي تتزعمه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل) ضرورة معالجة ما حدث لمنصور بشكل فوري، وألا يجري تسليمه إلى الجانب المصري، وقد شمل هذا التفاعل أحزاب المعارضة ووسائل الإعلام الألمانية حيث أصبحت قضية منصور تحتل حيزاً من اهتمامات الرأي العام الألماني.
6- الصوت العالي لمنظمات المجتمع المدني، فمن جهتها، شجبت منظمة “مراسلون بلا حدود” احتجاز منصور، وتساءلت: هل أصبحت برلين شريكة للنظام الاستبدادي المصري؟ وأضافت: على الأقل هذا ما قد يُستنتج من إلقاء القبض على المذيع التلفزيوني أحمد منصور.
وفي هذا الصدد، قال الأمين العام للمنظمة كريستوف ديلوار: إن السلطات المصرية لم تعد تكتفي بإصدار أحكام إعدام جماعية ضد معارضيها الإسلاميين، بل إنها تواصل موجتها الانتقامية الرهيبة ضد الصحفيين الذين يزعجون النظام وفي مقدمتهم أولئك العاملون في القناة القطرية، وأضاف: ولذلك يجب على برلين ألا تأخذ حجج القضاء المصري على محمل الجد، إذا قام القضاء الألماني بتسليم أحمد منصور، فإنه قد يُصبح بذلك أجيراً لدى نظام دكتاتوري في خطوة مخزية ومشينة.
وأوضحت اللجنة التي تعنى بالدفاع عن الصحفيين في العالم أن فرض الرقابة على الصحفيين والزج بهم في السجون بات المناخ السياسي السائد في مصر، كما طالب المعهد الدولي للصحافة السلطات الألمانية بإطلاق سراح منصور، وجاء ذلك في بيان نشرته مديرته التنفيذية “باربرا تريونفي” التي قالت فيه: نوجه نداءً إلى ألمانيا التي تعد في طليعة الدول المدافعة عن حق التعبير عن الرأي في العالم أن تبقى وفية للمبادئ الأساسية للدولة الألمانية، فتوقيف صحفي “الجزيرة” أحمد منصور مرتبط بشكل واضح بانتقاداته لحكومة السيسي في مصر، وهذا أمر لا يمكن قبوله.
والآن وقد تم إطلاق سراح الإعلامي أحمد منصور بقرار من المدعي العام الألماني وبدون توجيه أي تهم بعد أن خاطبت وزارة العدل الألمانية المدعي العام برسالة عبر الفاكس داعية إلى إطلاق سراحه، وبعد أن تبين للمدعي العام بعد مراجعته للقضية أنها قضية سياسية وتستند إلى اتفاق بين ألمانيا ومصر!
إن مثل هذا القرار بإطلاق سراح إعلامي لا يعتبر خاصاً بأحمد منصور بقدر ما يعتبر صفعة لحكومة السيسي وأذنابها، وربما يصبح عرفاً بالتعامل مع قرارات حكومة السيسي فاقدة الشرعية والمصداقية، ولا أدري هل سنسمع في الأيام القادمة اتهام المدعي العام الألماني أنه من جماعة الإخوان المسلمين ولكنه متخفٍّ منذ نصف قرن في برلين!
والسؤال الأهم، متى نستطيع أن نوقف مثل هذه التصرفات “السيسية” الرعناء مع عموم الناس لا مشاهيرهم، فدهاليز السجون “السيسية” اليوم تعج بالمظلومين، فهل من ناصر؟