د. سنان أحمد
لقد كان الدافع لكتابة هذه الدراسة تذكري لسرقة لوحة برونزية من متحف الموصل الحضاري بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، حيث تمثل اللوحة الملك الإسرائيلي إلياهو يقبل الأرض تحت قدمي الملك الآشوري شلمناصر الثالث، ملك آشور، ويدفع له الجزية.
ولذلك لن نستغرق طويلاً في تحليل “داعش” ومن يقف خلف تحركاتها، فهذا الأمر سيأخذ حيزاً واسعاً في الدراسات المستقبلية الجادة البعيدة عن المهاترات والعواطف، ولكن مما لا خلاف عليه فهي صنيعة قوى عديدة لها أهداف سياسية واجتماعية وتاريخية.
إن التستر تحت ظاهرة ما يسمى السلفية الجهادية وغيرها من المسميات لا يعدو إلا غطاءً لماعاً لبيضة فاسدة وإحدى الظواهر اللافتة للنظر على ما اقترفته هذه المنظمة من عمليات تخريب هستيرية بحق الحضارة الآشورية تحت غطاء محاربة الوثنية وتحطيم الأصنام، حيث دمروا كل ما يمت لهذه الحضارة من صلة، والتي ازدهرت في نينوى (الموصل) قبل آلاف السنين، وادعاؤهم بأن أفعالهم تستند إلى الشريعة الإسلامية في هذا الشأن؛ هو ادعاء لا أساس له مطلقاً، فهل لهذا التخريب علاقة باللوحة المسروقة؟
فالقرآن الكريم يقول: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ {137}) (آل عمران)، ويقول: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ {137} وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {138}) (الصافات)، فالنظرة الدينية الخالصة واضحة وضوح الشمس بالتفكر بمصائر الأمم الغابرة، وبقوله تعالى: (فَانْظُرُواْ)، وبقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ {138})، وحتى نبقى في دائرة عنوان المقال سنعطي عن الآشوريين نبذة سريعة وعلاقتهم ببني إسرائيل، لكي نبقى في دائرة السؤال.
فالآشوريون حسب التصنيف التوراتي هم أقوام سامية؛ أي من نسل سام بن نوح من ابنه آشور (التكوين 1، 10)، بينما الإسرائيليون هم من نسل أرفكشاد بن سام بن نوح (التكوين 10، 11).
وقد أخذت هذه الأساطير مكانها في العلوم الحديثة، حيث تبنى العالم النمساوي شلوتر عام 1798م هذه الأقوال وأخرج لنا النظرية السامية عن الأصول العرقية التي يتغنى بها اليهود صباحاً ومساءً.
أما الدراسات الحديثة الجادة والتي قال بها أحمد سوسة، وطه باقر، وجواد علي وغيرهم، فإنها تضع الآشوريين والكلدانيين والفينيقيين والآراميين ضمن دائرة ما يسمى بالأقوام العربية الجزرية التي خرجت من شبه جزيرة العرب واستوطنت الهلال الخصيب والشام منذ حوالي 3000 عام قبل الميلاد، وهو أمر أقرب للواقع والعلمية من أساطير التوراة وذلك بالاستناد للحقائق الأنثروبولوجية واللغوية.
استوطن الآشوريون شمال العراق الحالي، وكوَّنوا إمبراطورية عظيمة وحضارة رائعة بغض النظر عن اعتقادهم الديني، فقد امتدت إمبراطوريتهم لتشمل الهلال الخصيب ومصر والأناضول وشرق إيران الحالية، وكانوا مشهورين بالقوة والبأس الشديد إلى حد القسوة، ثم انتهت دولتهم عام 612 ق.م بسقوط عاصمتهم العتيدة نينوى على يد البابليين والماذيين ولم تقم لهم قائمة بعد.
تنقل الآشوريين بين عدة عواصم هي الشرقاط وكالح (نمرود) وخورسباد، وأخيراً استقروا في عاصمتهم الشهيرة نينوى والتي تقع ضمن دائرة مدينة الموصل الحالية، عاصرت الإمبراطورية الآشورية دولة إسرائيل التي أقامها داود عليه السلام عام 1025 ق.م، وانتهت بموت سليمان عليه السلام عام 940 ق.م، وانقسامها إلى مملكتين صغيرتين؛ إسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة، ويهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، وكانتا في حالة نزاع دائم مما أوقعهما تحت رحمة الآشوريين شرقاً والفراعنة غرباً.
تميزت هذه العلاقة مع المملكتين بالقسوة والغطرسة إلى حد بعيد من قبل الآشوريين والذل والخنوع من قبل الإسرائيليين.
قام الملك الآشوري تجلات بلاسر ( 744 – 727 ق.م) بغزو مملكة إسرائيل وسبي معظم أهلها إلى آشور، وبعد فترة خاف ملك يهوذا المسمى آحاز من أعدائه فلم يجد غير تجلات بلاسر ليستنجد به، فأرسل له قائلاً: “أنا عبدك وابنك فتعال وأنقذني من حصار ملك آرام وملك إسرائيل اللذين يهاجمانني، وجمع أحاز الفضة والذهب الموجودة في هيكل الرب وفي خزائن قصر الملك وأرسلها إلى ملك آشور هدية، فلبى الملك طلبه” (م. الثاني 7 – 8، 16)، وكان ذلك منتهى التذلل والخنوع عندما يضطر الملك لنزع حلي أقدس مقدساته ليرضي به عدوه ويستنجد به.
لم تقف تهديدات الآشوريين للمملكتين الهزيلتين، ففي عام 721 ق.م تمكن سرجون الثاني انطلاقاً من عاصمته نينوى من اجتياح إسرائيل وعاصمتها السامرة، وإزالتها من الوجود، وسبي كل أهلها إلى منطقة آشور (شمال العراق الحالي)، وأسكن أقواماً من مناطق أخرى في مدنهم وقراهم، وهذا هو السبي الأول في الأدبيات “الإسرائيلية” حيث تفرق الإسرائيليون وتشتتوا من مدنهم وقراهم ودخلت نينوى وملوكها في قاموس الشر الذي يجب الثأر والانتقام منه وانتهت المملكة الشمالية وللأبد.
استمرت الغطرسة الآشورية تجاه الإسرائيليين؛ فها هو الملك سنحاريب خلف سرجون الثاني يتجه نظره نحو أورشليم، بعد أن نقضت العهد معه، وتعاونت مع مصر، فيرسل للملك اليهودي رسالة ملؤها التهديد والاحتقار قائلاً: “على من اعتمدت حتى تمردت علي؟ ها أنت تتكل على عكاز هذه القصبة المرضوضة مصر التي تثقب كف كل من يتوكأ عليها هكذا يكون فرعون ملك مصر لكل من يتكل عليه” (م. ثاني 21 -22، 18).
وبعد حصار طويل ومطالبة الإسرائيليين للقائد الآشوري عدم الكلام بالعبرية معهم حتى يبقى الناس بعيدين عما يدور حولهم يجاوبهم القائد الآشوري باحتقار قائلاً: “أتظن أن سيدي قد أرسلنا لنتحدث إليكم وإلى ملككم فقط بهذا الكلام؟”.
“أليس هذا الكلام موجهاً إلى الرجال المتجمعين على السور الذين سيأكلون مثلكم برازهم ويشربون بولهم؟” (م. ثاني 27، 18).
ثم رفع الآشوريون الحصار عن أورشليم بعد حدوث ثورة عليهم في عيلام غرب إيران الحالية.
لهذه الأسباب حفلت الأسفار المتأخرة بروح الانتقام من الآشوريين، فيقول النبي أشعيا: “لقد أقسم الرب القدير قائلاً: حقاً ما عزمت لابد أن يتحقق بأن أحطم آشور في أرضي وأطأه على جبالي فيلقي عنهم نيره ويزول عن كاهلهم حمله” (أشعيا 24، 25، 14).
والكتاب المقدس مملوء بجمل الانتقام من نينوى عاصمة الآشوريين، ويحتاج الأمر لدراسة مفصلة عن هذه الظاهرة، حيث يقول النبي ناحوم وهو من الأنبياء المتأخرين عن نينوى: “ويل للمدينة سافكة الدماء الممتلئة كذباً التي لا تخلو أبداً من الضحايا كل هذا من أجل كثرة زنى نينوى الفاتنة الآسرة ومن أجل سحرها القاتل، لقد استعبدت الشعوب بعهرها والأمم بشعوذتها، ها أنا أقاومك، يقول الرب القدير فأكشف عارك لأطلع الأمم على عورتك والممالك على خزيك وألوثك بالأوساخ وأجعلك عبرة وكل من يراك يعرض عنك قائلاً: لقد خربت نينوى فمن ينوح عليها؟ أين أجد لها معزين؟” (ناحوم 1– 7، 3).
فهل حققت “داعش” ما تمناه كتبة العهد بالانتقام من نينوى؟ سؤال نتركه ليجيب عنه من يحبون الموصل (نينوى) ولو بعد زمن.