د. سلمان العودة
افتقدتُه من سنوات رغم أنه مثل الولد لي يبيت في المنزل عند أبنائي وهم كإخوانه، وأمهم كالأم له، ويدخل ويخرج بمفرده، ويعزم الضيوف لأنه فعلاً صاحب محل والبيت بيته، وأهل البيت يفرحون به ويشعرون أنه بركة عليهم، ويتفقدّونه إذا غاب.
يعجبني حين يناديني “يُبَهْ”، وهي الكلمة البسيطة الرائعة التي يفتقدها الكثيرون.. ويعتادها غيرهم حتى لا يحسون بطعمها!
انتقل إلى منطقة أخرى، وصار التواصل معه بالهاتف؛ لانشغاله بعمله الجديد في أحد المستشفيات.
المفاجأة الجميلة حين أخبرني أنه سيتزوج وأكد عليَّ الحضور، وكيف لا أحضر زواج شاب أعتز به كأحد أبنائي؟
لست متأكداً الآن من سبب غيابي عن العرس، ولكني أشعر الآن أنه لم يكن عذراً مقبولاً بحال، وأنه كان عليَّ أن أحضر مهما كلَّف الأمر.
ذهب في بعثة بصحبة رفيقة الدرب، وصار يأتي في الإجازات، ونتواعد ولكن لا نلتقي، ولعل التفريط في الغالب مني.
كان موفَّقاً في دراسته، جيد التخطيط لتحركاته وخطواته، منسجماً مع أسرته الصغيرة؛ التي درَّبته على تحمل المسؤوليات، وعلَّمته كيف ينطق كلمة: “يا بنيتي.. يا صغيرتي..”؛ مشبعة بمعاني الحنان والحبور، والنظر للمستقبل وليس التلفت للماضي!
هذا الأسبوع كان متميّزاً بالنسبة لي، لقد لقيته وجلسنا معاً!
صار ابني أكثر نضجاً وثقةً بنفسه، وقوة واستعداداً للتفاعل مع الحياة ومستجداتها ومتغيراتها وتحدياتها.
لقد تغيّرت يا “عبدالرحمن” كثيراً، كنت جميلاً صبوراً، وأنت الآن أجمل وأصبر وأقوى بفضل الله!
ماذا جرى؟
تعرّف على الأسرة الكريمة وقدّم نفسه لهم مباشرة ودون مقدمات!
لم يكن يعنيهم سؤال “وش أصلك؟!”.
لأنهم تربّوا وتعلّموا أن أصله هو أصلهم؛ طين معجون بماء.
هذا التراب الذي تدوسه أقدامنا هو أصلنا، وأصل تلك الهامات المستعلية؛ التي تنظر للناس شزراً!
ولأنهم عرفوا أن جدّه الأول آدم كان بلا أب ولا أم، أبوه وأمه الماء والطين!
آدم عاش ومات يردد كلمة “يا رب”، ولكنه لم يقل يوماً “يا أب”.
وعرفوا أن سلسلة النسب البشري لا تخلو من انقطاع في المراحل المتقدمة والمتأخرة.. ولذا يقال: كذب النسّابون ولو صدقوا!
الذي كان يعنيهم دينه، وأخلاقه، ورجولته، وصدقه.
ونُصب أعينهم: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» (أخرجه الترمذي وابن ماجه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ).
زهرتان جميلتان؛ هما ثمرة هذا الزواج المبارك.
والمستقبل حافل – بإذن الله – بمزيد من الوئام والحب والنجاح والذرية الطيبة.
قصة من قصص النبل والإنسانية والتسامي، قلَّ أن تُروى، وهي جديرة أن توضع إلى جوار مثيلاتها من قصص التاريخ المحفزة.
يذكر أبو نعيم، وابن أبي شيبة، وغيرهم أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي تزوَّج امرأةً من قبيلة “كندة” العربية، وما الغرابة في ذلك وهو قد أصبح “منا آل البيت”، أصبح من السابقين المقرَّبين، أصبح من أهل الجنة خالدين فيها {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ} (يــس:56).
كان جديراً بنا أن نحتفي بمثل هذه القصص؛ المعبرة عن الطيبة الباقية في الناس اليوم وتقدير المعاني الكريمة، ثمَّ أناس لا يبحثون عن الشهرة، ولا عن المال، ولا عن المنصب والوجاهة، ولا عن النسب العريق، ولعلهم يبحثون عن عمل ينالون فيه ثناءً في الملأ الأعلى، ويتاجرون مع الغني الذي لا يخيب آمله ولا يُردّ سائله.
شكراً لنورة، ولأسرة نورة؛ التي كانت سنداً وعوناً في طريق الخير.
شكراً لأنكم احتضنتم روحاً متألقة وساعدتموها على أن تعيش بأمان وحب وطموح.
شكراً لأنكم نجحتم فعلاً في صناعة قصة هي بسيطة بمقياس عفويتكم وبساطتكم، ولكنها عظيمة ونادرة في عصر سطوة الأنا وانشغال الكثيرين عمن حولهم.