في الإسلام الدماء لها حرمة، وللنفس البشرية قيمة عند خالقها الذي يحييها ويميتها
ثمة حالة هستيرية من الاندفاع نحو استحلال الدماء تسود أطرافاً في السلطات، وقوى متصارعة في المنطقة العربية وخصوصاً بعد ثورات «الربيع العربي».
في الإسلام الدماء لها حرمة، وللنفس البشرية قيمة عند خالقها الذي يحييها ويميتها، وأنزل في ذلك قرآناً يتلى دهوراً وأزمنة طويلة ليلاً ونهاراً.
لقد حرم الله الدماء في شريعته، وجعل لها هذه المنزلة، وحرَّمها في سائر شرائعه، وفي كافة رسالاته ودياناته (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)(المائدة: 32).
لا يجوز أن تُقتل نفس بغير حق.. أي نفس معصومة؛ كل نفس حرّم الله قتلها ما دامت غير معتدية بالكفر أو بالظلم (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)(الأنعام:151).
وروى البخاري ومسلم، عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالكعبة وقال لها: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله منك».
إن عظمة الإسلام تناولت الدماء في مجالات عدة تحريماً أو توجيهاً، عبادة أو تزكية أو طهارة، فالدماء التي تسيل في سبيل الله، وفي قتال العدو إن لها وصفاً خاصاً؛ إذ إن ريحها ريح المسك، ويدفن صاحبها بدمائه في قبره، وهناك الدماء التي تتلطخ بها ثياب الإنسان المسلم يتطلب الطهارة منها لإجازة الصلاة، وهناك دم المرأة في الحيض له أحكامه.
ومن عظمة الشريعة الإسلامية أن حرمة الدماء ليست قاصرة على المسلمين فحسب، بل تشمل كذلك غير المسلمين من المعاهدين والذميين والمستأمنين حرَّم الإسلام الاعتداء عليهم، وذلك في أحاديث كثيرة من سُنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاماً».
كل هذه النصوص والأحكام الشرعية تؤكد أن الدماء عظيمة وموقعها عظيم عند الله، وما يجري اليوم على ساحة أوطاننا العربية من احتراب، وتدافع حيث اختل فيه ميزان الرحمة، وقدم فيه سوط الوحشية والطغيان في سفك الدماء البريئة.
لقد سطر لنا التاريخ أن الغرب – في قرونه الوسطى والحديثة – قدم تاريخاً دموياً للبشرية، فكان لنظريته العلمية الداروينية التي قامت على «البقاء للأصلح»، دور في الإبادة البشرية لشعوب بكاملها في أمريكا الشمالية، والجنوبية، وأفريقيا، وأستراليا، كما أن القومية العنصرية التي مارستها الدول القومية الأوروبية، وخصوصاً الفاشية والنازية، أغرقت البشرية بسيل من الدماء، وكان حظ منطقتنا العربية عظيماً فيها، ثم ورّث الغرب هذا المنهج للدكتاتوريات العسكرية التي قامت بعد حركات التحرير الوطني في أوطاننا؛ حيث استحوذت على المال والسياسة والاقتصاد، ومن أجل ذلك استحلت الدماء الزكية، في تونس والجزائر ومصر واليمن الشيوعية وغيرها في بلدان العرب والمسلمين.
حتى استوطن الإجرام واستحلال الدماء ثقافة السلطة العربية في مجتمعاتنا، ثم أتت الثورات العربية في ربيعها المنتظر، وتنفست الشعوب العربية الصعداء وما لبثت، وإذ برِدّة جديدة عليها تتشح برداء قانٍ وأحمر من الدماء، ولكن عن طريق تسطير قوانين تجيز لها استحلال دماء الأبرياء، وقد تناغم مع ثقافة الردة هذه خمسة مناهج فكرية:
فكر السلطة القائم على استحلال دم المعارضين وسورية خير شاهد على ذلك، والفكر التكفيري القائم على استحلال دم المخالفين في الفهم الشرعي كما تمارسه «القاعدة»، و«داعش»، والفكر الطائفي القائم على استحلال دم المخالف في المذهب، وإيران و«حزب الله» والمليشات العراقية في سورية والعراق أكبر دليل فيه، والفكر الليبرالي والعلماني الإقصائي القائم على استحلال دم المخالف للرأي السياسي، كدعم الانقلاب في مصر وبعض دول الثورات العربية، واستبدت ثقافة استحلال الدم هذه حتى وجدنا شرائح اجتماعية وسياسية تتلذذ بدماء المعارضين والمخالفين.
لكن الخطر الداهم اليوم يتمثل في تحول العدالة القضائية في بعض الدول، والتي هي ملاذ الآمنين ومرجع المتقاضين، إلى أداة لاستحلال دماء الأبرياء دون تقوى وخوف وخشية وحتى حياء.
إن هذه الدماء هي أول ما يُقضى به يوم القيامة، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يُقضى بين الناس الدماء».
فويل لقاضي الأرض من قاضي السماء.