تستضيف العاصمة النمساوية فيينا في السابع والعشرين من أغسطس مؤتمراً عن تطوير منطقة غرب البلقان، وهي المنطقة التي تضم دول يوغوسلافيا السابقة، ولا يعلق المراقبون آمالاً كبيرة على المؤتمر، غير أن الاهتمام بالمؤتمر بدأ مبكراً مع إصرار رئيس وزراء صربيا ألكسندر فوتشيتش في عرض مبادرته التي أطلقها محلياً قبل بضعة أيام، رغم أنها قوبلت برفض جماعي، لكنه أكد أن ردود الفعل حول هذه المبادرة لن تثنيه عن طرحها من جديد على المؤتمر في حضور ممثلين من الاتحاد الأوروبي ومسؤولين من دول المنطقة في فيينا.
حقيقة المبادرة
تتلخص مبادرة فوتشيتش في تخصيص يوم لتخليد ذكرى ضحايا الحروب التي شهدتها يوغوسلافيا السابقة في التسعينيات في سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وكوسوفو، وقد قال فوتشيتش من أجل دعم هذه المبادرة: إن الكراهية ونبش جراح الماضي لن تمكننا من العيش معاً أبداً، ومن الأفضل أن تتحقق العدالة للجميع، ولا يمكن للجناة أن يفلتوا من العقاب، وأضاف: أنا سعيد بأن صربيا تفهم ذلك وتحترم جميع الضحايا تماماً كما تحترم ضحاياها، ولهذا السبب اقترحت يوماً لتخليد ذكرى الضحايا، وأعرب عن ثقته البالغة في أن الجميع سيقبل هذه المبادرة في نهاية المطاف.
ولا شك أن المبادرة تحمل روحاً إيجابية تحتاجها المنطقة، وهو ما لم ينكره أحد، لكن المحللين شككوا في مسعاها وهدف صاحبها، إذ يرى بعض المراقبين أن فوتشيتش أعلن هذه المبادرة تقرباً إلى الاتحاد الأوروبي أو استجابة لضغوط الاتحاد الأوروبي لتغيير سياسة صربيا تجاه جاراتها.
ويدعم ذلك أن فوتشيتش في ملف المصالحة يكيل بمكيالين، وهو ما ظهر جيداً في الذكرى العشرين لمذبحة سريبرنيتسا؛ إذ أعلن عن ذهابه إلى سريبرنيتسا لمشاركة ذوي الضحايا في الحادي عشر من يوليو، لكنه قبل ذلك رفض إصدار مجلس الأمن قراراً لإدانة التطهير العرقي في سريبرنيتسا، وظهر أمام وسائل الإعلام مفاخراً بدعم روسيا لصربيا بعد أن قدمت فيتو داخل مجلس الأمن على مقترح هذا القرار.
في ذات الوقت الذي يقترح فيه فوتشيتش مبادرة لتخليد ذكرى الضحايا، يعج الجيش والشرطة الصربيان بالعديد من الذين شاركوا وساعدوا في جرائم حرب، بل لا تزال بعض وسائل الإعلام الصربية تبث سموم البغض والكراهية ضد القوميات الأخرى في الدول المجاورة دون تدخل من فوتشيتش، ولعل الإجابة عن السؤال: من هو ألكسندر فوتشيتش تلخص مبررات رفض مبادرته.
من هو فوتشيتش؟
قد يسهل استنباط الحقيقة إذا تعرفنا على رئيس وزراء صربيا، فالرجل هو الابن الروحي لفويسلاف شيشل، زعيم الحزب الراديكالي الصربي المتطرف الذي لا يزال يحاكم بتهم جرائم حرب في البوسنة وكوسوفو، وقد تربى فوتشيتش على أيديولوجيته العدوانية على مدى خمسة عشر عاماً منذ التحق بالحزب في عام 1993م إلى أن انشق عنه في عام 2008م.
ويكفي أن شيشل نفسه قال: إن بداية ظهور فوتشيتش كانت عام 1992م عندما كان متطوعاً في عصابة سلافكو ألكسيتش؛ وهي عصابة من عصابات التشتنك الصربية الإجرامية قادها سلافكو ألكسيتش في البوسنة وشاركت في قتل العديد من المسلمين والكروات في بداية الحرب البوسنية، وكان من بين جرائمها الشهيرة قصف المقبرة اليهودية في سراييفو، حسب أفدي حسينوفيتش، الباحث ومنتج العديد من الأفلام الوثائقية عن الحرب البوسنية.
وقد عمل فوتشيتش بعد أن ترك عصابة سلافكو ألكسيتش في قناة “إس” التلفزيونية التابعة لصرب البوسنة التي كانت تحرض على قتل مسلمي وكروات البوسنة أثناء الحرب.
ومن أقواله التي لا تزال مسجلة على “يوتيوب”: إذا قُتل صربي واحد سنقتل مئات المسلمين.
ولعل هذه الصفحة القصيرة من السيرة الذاتية لفوتشيتش دفعت عضو مجلس الرئاسة البوسني عن صرب البوسنة ملادن إيفانيتش إلى القول: إن مبادرة فوتيتش تحتاج إلى قادة جدد في المنطقة.
ردود الفعل على المبادرة
كان وزير الخارجية الكوسوفي هاشم تاتشي أول الرافضين للمبادرة، مبرراً ذلك بأن فوتشيتش يرى أنه لا يمكن التسوية بين من بادر بالتطهير العرقي وبين من دافع عن أرضه وعرضه، وأن في مبادرة فوتشيتش مغالطة تاريخية وقانونية؛ لأن صربيا كانت أول من أعلن الحرب على جيرانها.
واختصر رئيس الوزراء الكرواتي زوران ميلانوفيتش الرد على المبادرة بقوله: مع احترامنا العميق للضحايا، فإننا لن ننوي تحديد يوم للحداد لا لضحايانا ولا لضحايا الآخرين.
ثم جاء رد فعل مسلمي البوسنة المتحفظ على لسان عضو مجلس الرئاسة البوسني باكر عزتبيجوفيتش إذ قال: إنه من المبكر عرض مثل هذه المبادرة في ظل تهديد كيان صرب البوسنة بتنظيم استفتاء للانفصال عن البوسنة وهو ما يلقى دعم وتأييد بلجراد.
ويقول المنطق: بما أن صربيا هي أقوى دولة في المنطقة، وهي من بادرت بإعلان الحرب في عام 1990م على سلوفينيا، ثم على كرواتيا في عام 1991م، ثم البوسنة في عام 1992م، ثم كوسوفو عام 1998م؛ فإن على صربيا أن تبادر بالاعتذار لجيرانها وتعترف أنهم دفعوا الثمن الأكبر من حروب التسعينيات بدلاً من تحميل الجميع مسؤولية الحرب، وتعلن تحملها مسؤولية ما حدث، وربما يكون ذلك مقنعاً لفتح صفحة جديدة في المنطقة.
وبدون هذه الخطوة أو أي محاولة للمساومة عليها فستظل الطريق إلى مبادرة يوم موحد لتخليد ذكرى ضحايا الحرب في المنطقة يبدو مليئة بالغيوم وجروح الماضي الأليم، وقد تتحول إلى عالم النسيان بعد أن وأدها فوتشيتش بتاريخه ومواقفه السياسية.