من الذي أقر في أذهان الأجيال حتى الآن.. في ظل الملابسات والظروف التي تحيا فيها أوطاننا.. أن العُمر يقاس بالسنوات؟
صدق الشاعر أحمد مطر، رحمه الله، لما قال:
إذا عدتْ الأعمار بالنعمى وباليسر
فعمري ليس من عمري!
والحال من بعضه مع المخلصين.. على امتداد دول من المحيط إلى الخليج.. من الذي أفهمنا منذ الصغر ونعومة الأظفار حتى قرب الرحيل إن رقماً يذكره أحدنا يعبر عن شيء ذي قيمة يخصه؟!
راجع معي غرفة التحقيق، أي تحقيق.. بداية من اختفاء “منفضة السجائر” من مكتب المدير.. حتى اختفاء الوطن من فوق ظهر الخارطة.. سؤال المحقق الأول:
– اسمك وسنك وعنوانك؟!
لستَ تشك في “سنك” تم الزج بها و”حشرها حشراً” بين السؤالين الأول والأخير، دع عنك؛ إن بياناتك لدى المحقق كاملة، وإن السؤال عبارة عن مفتتح هزلي لفصل من فصول السخف المتنامي بخاصة بعد محاولة الثورات في بلدان تتوق إلى الحرية، ولكن تُرى:
ما علاقة سنك بالتحقيق من الأساس؟!
هل يريد المحقق أن يثبت عليك “تهمة” كونك عاقلاً رشيداً لذلك “يجوز” لك أن يقال عنك: “منتمٍ” إلى الذين سيتم اتهامك بالتورط معهم في حب الوطن أو كرهه.. من وجهة نظر المحقق وجهات التحقيق.. السؤال الحقيقي مازال يدور في الوجدان ويأكل قطعة من العقل.. ما دخل سنك بألعاب الحواة من إجراءات التحقيق في الوطن العربي؟!
ليست السن دليلاً على شيء من الأساس!
ها هنا في هذه البلاد قد تحيا عمراً من الأوهام لمجرد أنك تمتلك قدرة ومهارة فائقة.. ربما تكون مميزاً في مجال تخصصك، وربما لا تكون، ولكن في الحال الأخير إن كنت تمتلك أدوات النفاق.. وقلة الضمير.. والقدرة على “مناسبة” الخداع والمخادعين، ومجاراة الفساد هنا وهناك، فستصعد السُّلم في لمحة عين، أما إن كنتّ من النوع الأول.. حبذا لو تم إغراؤك بمغادرتها!
وما فائدة السن.. إن كانت أسباب الترقي في أوطاننا لا تراعي صدقاً ولا خبرة؟
ثم يسألونك عنه لما ينوون محاسبتك، وإن كنتَ غير مخطئ.. وحبذا لو تمت مؤاخذتك دون جريرة أو ذنب سوى أنك مخلص.. تود البقاء في وطنك.. وما تزال لديك هذه الرغبة!
أما قول أحمد مطر عن النعمى واليسر في أوطاننا، فقد وضعنا للأمانة بين شقيّ منحدرين.. يفتحان بابهما على شيء من العذاب ليس قليلاً:
الأول: قلة الأوقات السعيدة في الحياة، بوجه عام، تلك التي تعرضنا دائماً لتآكلها دون أن نشعر بحقيقة عيشنا فيها، ذلك الشعور الذي يقضي بنسبية الحياة نسبية مطلقة، وليس أجمل في التعبير عنها من قصة ذلك الرجل الإنجليزي الذي كتب على قبره:
ولد عام 1882م، وتوفي عام 1949م، وعاش 18 يوماً!
لقد أحصى لحظات سعادته وعدها عداً فما وجدها في قرابة سبعين عاماً إلا أياماً.
تلك طبيعة الحياة منذ خلقها الله وحتى يرثها.
أما الأمر الآخر الذي يخصنا.. في عالم ثالث.. لم يجدوا رقماً أكثر من ثالث ليصفوننا به.. فما نحن فيه لأننا “نلي” العالمين الأول والثاني في ترتيب التقدم والرقي الحضاريين.. بل لأننا في ذيل العالم.. وهم يريدون أن يتحضروا معنا، ظاهرياً، فينسبوننا ظلماً للرقم الثالث.. وما من رقم يصفنا في ترتيب الأرقام.. وليس من الطبيعي أن يكون هناك أول وثانٍ و”تشليون” بعدها!
الأمر الثاني والأخير في أعمارنا أن بلادنا تقهر العمر قهراً، خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر:
لما يحب جيش الدفاع الصهيوني التحكم في صلاة الجمعة في المسجد الأقصى يمنعون الذين تقل أعمارهم عن الخمسين من دخوله؛ ذلك لأن الشباب فيهم من الحماسة ما يكفي لمحاولة التصدي لهم، أما لدينا فإننا نمنع الأساتذة الجامعيين الذين تعدوا هذه السن بسنوات عشر أو أكثر قليلاً من الاستمرار في التدريس للطلاب.. ربما لأنهم أصبحوا يمتلكون خبرة لا نريدها ومرتباتهم عالية، وهو عرف جارٍ في القطاع الخاص والعام لدينا في مصر على الأقل.. كلما ترقى العالم.. تحسسنا “أسلحتنا” الحكومية متعجلين القضاء عليه، وهو بالطبع ما لا نفعله مع الثقات من الجنرالات!
في بلداننا كلما تقدم العمر بك.. ازداد عمق مساحة قولك الحق، وصقلتْ الكلمة من رونق الخبرة.. وكنت هدفاً للعسكر والذين يدورن في فلكهم.. ويسلكون مسلكهم هنا وهناك!
يبقى من رونق العمر.. وبقايا صفحة بياضه الطاغية في الصغر.. واصفرار ورقة الفتوة المسماة ظلماً بالمراهقة.. واخضرار عود الشباب.. وذهبي لون الكهولة.. ورمادي ما بعدها.. يتبقى من أعمارنا لسعة الشعور بالشجن والأسى على أحلام عظيمة وأدتها وذهبت برونقها التقلبات السياسية، والأخطاء التكتيكية التي وقع فيها شرفاء ناصرتهم الروح منا.
أعمارنا في هذه الأوطان عنوانها شئنا أم أبينا تختصرها كلمتان:
نكهة المحاولة!
على قبورنا خارجها.. أم لم يكتب الله لنا عودة لندفن في ترابها بحبر من نقاء سنكتب:
هاهنا عاش إنسان.. حاول وغادر لكنه لم يرض بفساد أوطانه!