مما لاشك فيه بأنه من أصعب الأمور في المداولات الإنسانية الصرفة ، مسألة مايدور من مفاهيم ووضعها في مصطلحات محددة حيث تتضاءل كثيرا هذه المسألة في العلوم الطبيعية والتطبيقية إلى حد كبير كالطب والهندسة والفيزياء ،، إلخ .
ومن هذه المصطلحات المتداولة بشكل واسع وكبير هو مصطلح العلمانية والذي يعتقد كثير من المثقفين بأنه مشتق من ( العلم ) وهو غير ذلك تماما .
فالمصطلح مشتق من العالمية أو ( العالم ) secularity) ) والذي يفضل البعض تسميته بالدنيوية نسبة إلى الدنيا ولكن التسمية الأولى طغت وأخذت مكانتها في التداولات الثقافية والكتب والمقالات والمجلات . ففي الإنجليزية يعرف المصطلح بكلمة secularism)) والذي تكون ترجمته الحرفية بكلمة ( دنيوية ) المشتقة من الدنيا أو العالم أو الزمان .
وأما كلمة العلم في الإنجليزية فهي,science و المذهب العلمي يسمىscientism والنسبة للعلم scientific
وهكذا فالتشابه اللفظي بين المصطلحين هو الذي أحدث هذا الإرتباك
والعلمانية ليس لها شروط أو أسس تلتزم بها ، وهي طريقة لإستنباط القوانين الإجتماعية والسياسية والإقتصادية ، قابلة للتعديل والتطوير وتتكيف حسب البيئة التي هي فيها والمجتمع الذي تتواجد فيه .
وعليه فالعلماني ليس شخصا لادينيا بالضرورة وقد يكون كذلك ، ولكنه يعتقد بأن التشريعات الدينية غير قادرة على مواكبة كل متطلبات العصر بما تقتضيه من قوانين جديدة ، وذلك لمواكبة التطورات الإجتماعية والعلمية في شتى مجالات الحياة وهي التي سماها المرحوم عبدالوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية .
أي أنها من الوجهة السياسية هي فك إرتباط الهيئات السياسية والتنفيذية عن السلطة الدينية ، والبعض الآخر يفسر العلمانية بفصل الدين عن حياة الإنسان قاطبة وهي العلمانية الشاملة اللادينية ومواكبة تغير الحياة حسب مقتضيات الزمان والمكان والعقل
وأما دائرة المعارف البريطانية فإنها تعرفها بكونها حركة إجتماعية تتجه نحو الإهتمام بالشؤون الدنيوية بدلا من الإهتمام بالشؤون الأخروية والتي سادت منذ عصر النهضة لإعلان شأن الإنسان ، وكان أهم المنادين بها الفيلسوف سبينوز الذي عاش في هولندا في القرن الثامن عشر الميلادي ، إذا قال بأن الدين يحول قوانين الدولة إلى مجرد إجراءات تأديبية وأن الدولة كيان متطور وتحتاج للتحديث الدائمي وعليه فهي في حالة تصادم مع قوانين الشريعة إذا كانت ثابتة .
وقد فصل كثيرا من هذه الأمور في كتابه الشهير ” بين السياسة واللاهوت ، ثم حدث الطلاق الفعلي بين السياسة والدين بعد نجاح الثورة الفرنسية عام 1798 حيث تم تحييد سلطة الكنيسة الكاثوليكية ، وكان الأمر طبيعيا إلى حد كبير ، فالمسيحية كما هي دين بلا شريعة ، فالموت المجاني للمسيح على الصليب والذي يعتقد به المسيحيون قد جعله يحمل خطيئة البشر منذ آدم وحتى القيامة قد سهل المسألة إلى حد كبير ، فلا خطيئة في المسيحية يحاسب بها الناس على أسس شرعية والشريعة الموسوية قد عطلها بولص الرسول رغم وجود إختلافات في الموضوع خارجة عن سياق الموضوع الحالي ، وعليه فالعلمانية لايمكن أن تفهم بأنها ضد المسيحية لأنها لاتفرض مبادئها على من لايريد الإلتزام بها ، أي أنها ليست أيديولوجية أو عقيدة بقدر ماهي طريقة للحكم وإدارة مناحي الحياة المختلفة حسب رؤى معينة وهي علاقة جدلية بين العلمانية والليبرالية ( التحررية ) ، حيث أن الأخيرة تحتوي الأولى من ناحية فصل جميع المعتقدات سواءا أكانت دينية أو غير دينية عن الدولة وتجعل الإنسان كائنا لاقيود عليه سوى قوانين المجتمع .
أما علاقة العلمانية بالديمقراطية فهي علاقة متباينة فقد تكون الدولة علمانية ديمقراطية ( حكم الأغلبية ) أو لاتكون فألمانيا النازية كانت علمانية والدول الشيوعية علمانية وكثيرا من الديكتاتوريات علمانية . إن هذه المفاهيم يصعب عكسها على المجتمعات الإسلامية بنفس القدر والشمولية ، ففي الإسلام لايوجد مفهوم كنسي كما تفهمه المسيحية والحاكم ليس ظل الله على الأرض ولايوجد في الإسلام سلم كهنوتي كما في المسيحية ، ناهيك أن الشريعة الإسلامية هي العمود الفقري للدين حيث من الصعب التخلي عنها ويمكن لكل مسلم أن يطبقها بدون وصاية أحد .
والحقيقة أن كل الأحزاب والهيئات العلمانية في العالمين العربي والإسلامي التي حاولت أن تقلد النموذج الغربي _ المسيحي ، قد فشلت لأنها لم تأخذ بنظر الإعتبار الخصوصية الإسلامية ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بجانب تأكيده على الشريعة قد قال للمسلمين” أنتم أعلم بأمور دنياكم ” .
ومصطلح العلمانية إكتسب في العالم الإسلامي سمعة عدائية ذات دلالة سيئة خصوصا بعد سقوط آخر خلافة عام 1924 م على يد أتاتورك الذي فسر العلمانية بأنها حرب شعواء ضد الدين ويجب تقليد الغرب في كل شيء مما ولد كراهية لهذا المصطلح الذي إرتبط بأذهان الكثيرين بالكفر وهو ليس كذلك في الأمور الدنيوية المستجدة ولقد تبنى البعض جهارا فصل الدين عن الدولة بعد سقوط الدولة العثمانية مثل علي عبد الرازق في كتابه ” الإسلام و أصول الحكم ” الذي صدر في مصر عام 1925 م وكانت نظريته تقوم أصلا بأنه لاترابط بين السياسة والدين منذ الأيام الأولى لقيام الدولة الإسلامية وأنه لاتوجد نصوص صريحة بوجوب الخلافة وقد أثار كتابه موجة عارمة من السخط لايزال النقاش حولها جاريا خصوصا بعد صعود التيارات التكفيرية سيبقى الحديث عن العلمانية وعلاقتها بالسياسة قائما في البلاد العربية والإسلامية طالما أن المتمسكين بالعلمانية يرفضون الدين تماما والمتمسكون بالدين يرفضون العلمانية تماما .