انشغل العرب بصورة الطفل السوري الغريق “إيلان”، أحد ضحايا اللجوء إلى أوروبا، وانشغلوا أيضاً بالبحث عن إجابة للسؤال: لماذا لا تستقبل الدول العربية هؤلاء اللاجئين بدلاً من الدول الأوروبية؟
وبما أن العرب ينسون بسرعة، فإن صورة “إيلان” رحمه الله سيكون مصيرها مثل صورة “حمزة الخطيب”، و”محمد الدرة”، وغيرهم الذين طويت صورهم في كتاب واحد لا يقرأه العرب هو كتاب التاريخ.
وبما أن رغبة السوريين كغيرهم من العرب هي ألمانيا؛ لأن السويد برد قارس أو لأن كندا بعيدة.
ولما كان السوريون من أكثر الشعوب العربية التي تعرف هجرة الوطن حتى قبل الحرب نظراً لما تعرضوا له من تضييق في الحريات والأرزاق، ولما كانت أوروبا هي الجنة الموعودة التي يلجأ إليها اللاجئون فراراً من حرب أو نظام مستبد أو من كرب اللجوء في الدول العربية، فإن تدفق اللاجئين السوريين عبر البر أو البحر إلى أوروبا يطرح سؤالين مهمين.
أولاً: لماذا هذه الهجمة المفاجئة؟
هل قرر اللاجئون فجأة وبعد خمس سنوات من الحرب التدفق على أوروبا بهذه الأعداد وهذه الصورة هكذا من تلقاء أنفسهم؟
تتطلب الإجابة عن هذا السؤال البحث عن المستفيد من هذا التطور الذي أصبح حديث العالم، وهنا تبرز في الصورة تركيا.
تركيا
رغم ما قدمته على مدى أربع سنوات، واستضافة مليوني سوري، وهو موقف لا ينكره إلا جاحد، فإن المعادلة في تركيا تغيرت بعد دخولها في حرب مع “تنظيم الدولة” و”حزب العمال الكردستاني”، دفعتها إلى إغلاق الحدود أمام اللاجئين، كما أن الرئيس أردوغان الذي انتقد أوروبا لأنها حولت البحر المتوسط إلى مقبرة للمهاجرين ووصفها بالشريك في الجريمة تعليقاً على صورة الطفل “إيلان” كان قد دفع ثمن استضافته للاجئين السوريين غالياً، فكانت أحد أسباب تراجع الأصوات التي حصل عليها حزبه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وحرمته من أغلبية مطلقة كان يتطلع إليها بشغف.
المهربون
قرأ المهربون التطورات الجديدة على الحدود السورية التركية بأنها اللحظة المناسبة لتصعيد نشاطهم، خاصة بعد تشديد الإجراءات الأمنية على حدود كثير من الدول الأوروبية التي يتم من خلالها تهريب اللاجئين، وهنا يجدر التذكير بأن معظم هؤلاء المهربين من السوريين أيضاً، وأن الذين خاضوا تجربة اللجوء سواء وصلوا إلى أوروبا أو لم يصلوا هم من الذين يملكون المال المدفوع للمهربين مقابل ركوب الخط، وأن هناك عشرات بل مئات الآلاف من اللاجئين الفقراء لو ملكوا مالاً لزادت الكارثة أضعافاً مضاعفة.
صربيا ومقدونيا
بلجراد وسكوبيا أيضاً رغم علمهما أن اللاجئين لا يرغبان في البقاء فيهما، وأنهما يمثلان لهم مجرد نقطة عبور، فإن صربيا ومقدونيا أرادتا من خلال ترك اللاجئين يتدفقون إلى المجر ابتزاز الاتحاد الأوروبي، للتسريع بقبول الاتحاد لعضويتهما، وهذا ما ظهر من تصريحات وزير خارجية مقدونيا الذي أكد أن بلاده فقيرة ولا تستطيع استقبال اللاجئين وليست عضوة في الاتحاد الأوروبي، ولو كانت عضوة لاختلف الوضع، وكذلك فعلت صربيا إذ تركت اللاجئين في الحدائق العامة في بلجراد ثم ساعدتهم في مغادرة حدودها إلى المجر.
الطرف الثالث
هذا الطرف قد يكون جهات مخابراتية دولية تهدف إلى هز استقرار ألمانيا وضرب اقتصادها، وربما ضرب وحدة الاتحاد الأوروبي كله، ويبدو ذلك في الخلل الكبير الذي ظهر في تعامل كل دولة في الاتحاد مع الأزمة، والتجاذب السياسي والإعلامي بين المجر والنمسا وألمانيا.
وربما يكون الطرف الثالث هو اليونان التي تعمل على ترك اللاجئين يتدفقون إلى ألمانيا، وربما في ذلك انتقام من ألمانيا بسبب موقفها من أزمة أثينا المالية، وقد عبر عن ذلك وزير المالية اليوناني يانيس فاروفاكيس قبل استقالته في يوليو السابق بوصف دائني بلاده بـالإرهابيين، وبأنهم يريدون إذلال اليونانيين.
وربما يكون الولايات المتحدة التي تتربص دائماً بالاتحاد الذي بات منافساً اقتصادياً كبيراً لها رغم أنه سياسياً في بيت الطاعة الأمريكي.
ثانياً: لماذا تعارض أوروبا استقبال اللاجئين؟
صحيح أن الاتحاد الأوروبي يبدو مستقراً لا حروب فيه، وفيه احترام للإنسان وحرية التعبير قد لا تتحقق في سورية ولا غيرها من الدول العربية على الأقل في القرن الحالي، وقد تكون فيه فرص عمل أو حتى مساعدة سخية لمن تقبل أوراق اعتماده كلاجئ.
المشكلة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي
يعاني الاتحاد الأوروبي من مشكلات مالية واقتصادية، منها عدم استقرار منطقة اليورو (عملة الاتحاد الأوروبي)، ومواجهة بعض الدول الأعضاء مشكلات اقتصادية جمة مثل اليونان والبرتغال وأيرلندا وإسبانيا وإيطاليا، في حين تتحمل ألمانيا العبء الأكبر في مساندة الاتحاد وعملته اليورو، إلى جانب العبء الاقتصادي الذي جلبه ضم بعض دول أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى تصاعد المنافسة الاقتصادية مع اليابان والصين والولايات المتحدة، فضلاً عن ارتفاع نسبة البطالة إلى 11.5% في دول الاتحاد.
تصاعد دور اليمين في أوروبا
يكفي في انتخابات البرلمان الأوروبي الماضية أن تسعة أحزاب يمينية متطرفة فازت بـ214 مقعداً من 751، بالإضافة إلى تزايد شعبية هذه الأحزاب في الدول التي تنشط فيها مثل ألمانيا وفرنسا واليونان، ويكفي أن اليمين المتطرف يحكم في الدنمارك، كما أسفرت الانتخابات البرلمانية في النمسا التي جرت في يونيو الماضي عن فوز حزب الحرية اليميني المتشدد بنسبة 27%، مقابل تراجع حزب الشعب المحافظ والحزب الاشتراكي الديمقراطي بسبب تشديد اليمين في ملف اللاجئين في النمسا.
ومعروف أن هذا اليمين بصفة عامة من أشد الرافضين لاستقبال اللاجئين في أوروبا وخاصة المسلمين منهم؛ ولذلك يتعرض أتباعه للاجئين كما حدث في ألمانيا مؤخراً مع تصاعد أزمة اللاجئين على الحدود المقدونية، ثم على الحدود المجرية عندما هاجم أعضاء اليمين المتطرف مراكز اللاجئين وأحرقوا المساجد في بعض المدن الألمانية.
ولا عجب أن يكون موقف المجر صادماً، ورئيس وزرائها فيكتور أوريان ينتمي إلى اليمين ويعارض بوضوح داخل أروقة الاتحاد الأوروبي أي مشاريع لحل مشكلات الهجرة، حيث قال أثناء مناقشة اقتراح في هذا الصدد في التاسع من يونيو الماضي: على المجر والاتحاد الأوروبي إيجاد العوامل المناسبة للتصدي لقضية الهجرة الاقتصادية، أنا مقتنع بأن الاقتراح الموجود على طاولة المفوضية الأوروبية، بلغة بسيطة، سخيف ومجنون.
سلوفاكيا والمجر يوضحان السبب الحقيقي
فسرت تصريحات مسؤولَيْن أوروبيَّيْن حقيقة رفض الاتحاد الأوروبي لاستقبال اللاجئين السوريين، فقد قال المتحدث باسم وزارة الداخلية السلوفاكية إيفان نيتك في 19 أغسطس الماضي: لا نريد مساجد في سلوفاكيا، نحن سنقبل اللاجئين المسيحيين.
وفي اليوم التالي، أكد ذلك بطريقة دبلوماسية في تصريحات نقلتها معظم وسائل الإعلام العالمية: إن سلوفاكيا فيها أقلية قليلة جداً من المسلمين، ونخشى ألا يكون لدينا العدد الكافي من المساجد للاجئين المسلمين سيجعل حياتهم صعبة في سلوفاكيا، إن سلوفاكيا دولة مسيحية يمكنها مساعدة اللاجئين المسيحيين فقط لذلك سنقبل عدداً منهم.
وقال رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان يوم الثالث من سبتمبر: إن تدفق اللاجئين على أوروبا يهدد بتقويض الجذور المسيحية، وأضاف في مقال بصحيفة “فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج” الألمانية: إن العديد من الشعوب الأوروبية تختلف في الرأي مع معظم الحكومات بشأن أزمة اللاجئين.
ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن رئيس وزراء المجر فيكتور أوريان قوله: إن بلاده لا ترغب في استضافة عدد كبير من المسلمين، موضحاً أن سبب ذلك هو حقبة الحكم العثماني للبلاد على مدار 150 عاماً خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين.
وأضاف أوربان: أعتقد أن لدينا الحق في أن نقرر أننا لا نريد عدداً كبيراً من المسلمين في بلادنا، مضيفاً: نحن لا نحب النتائج المترتبة على ذلك، وأن التجارب التاريخية التي خاضتها المجر عزلت البلاد عن الآخرين.
وإذا علمنا أن اللاجئين المسلمين الذين تدفقوا على أوروبا على مدى العقود الماضية ساهموا في زيادة أعداد المسلمين فيها؛ وبالتالي زيادة مراكزهم الإسلامية والمساجد وتغيير التركيبة السكانية الأوروبية التي تخشى من الطاعون الأبيض (انخفاض أعداد المواليد).
وقد حذر مركز بيو للأبحاث أن عدد المسلمين في أوروبا بفضل اللاجئين سيرتفع من 43 مليوناً في سنة 2010 إلى نحو 71 مليوناً في سنة 2050م.
ورغم كل ذلك، فإن ما يحتاج إلى بحث الخبراء هو أن اللاجئين العرب يندمجون في المجتمعات الأوروبية بعد الوصول إليها، فيرفضون الرشوة، ويلقون بأكياس القمامة في الأماكن المخصصة لها، ويحترمون قوانين المرور، بل ويحترمون الحيوانات، ويقفون في الطابور، وإذا حصلوا على الجنسية حق لهم الانتخاب بدون ولاءات ولا مساومات، ولو فعلوا ذلك في بلادهم ما وصل الفاسدون إلى السلطة، وما غرق “إيلان” ولا قتل “حمزة الخطيب”.