اعتاد المصريون الارتياب في كل ما يبدر عن السلطة، حتى ولو كانت تمنحهم منحة منها يعتبرونها منّة، وحتى لو كانت تتصرف كما لو كانت سلطة عفيفة شريفة بالفعل .
حدث ذلك في كل تحرك قامت به السلطة، وآخرها القبض على وزير الزراعة صلاح هلال، في قضية فساد كبرى تتعلق بتسهيل الاستيلاء على المال العام، وذلك عقب القبض على مستشاره “محمد فودة” الذي حكم عليه منذ سنوات بالسجن في قضية مماثلة تتعلق برشوة محافظ الجيزة أيام مبارك، وفي غضون ذلك، تم القبض على “حمدي الفخراني” السياسي المعروف بتأييده لـ30يونيو، والذي اشتهر بإقامة دعاوى قضائية ضد كبار رجال الأعمال ومنهم قضية أرض “مدينتي” التي ادعى أنه رفض رشوة بملياري جنيه من صاحبها “هشام طلعت مصطفي” أيام مبارك، ثم تم القبض عليه مؤخراً بتهمة الابتزاز للحصول على مليوني جنيه.
لم تكن تلك القضايا مدهشة بذاتها، بل بما تحمله من إثارة على هامشها وما تناثر على جوانبها من شائعات، وأحياناً حقائق تتعلق بما وراء الكواليس، بعد حظر النشر الذي ضربته السلطة على القضية.
تعددت الأقوال:
تعددت الأقوال حول العدد الحقيقي للمتورطين في قضية فساد وزارة الزراعة، ما بين الحديث عن فساد 9 وزراء دفعة واحدة، وفساد العديد من الإعلاميين المشهورين الذي صنعتهم السلطة على عينها (تحدثنا هنا في موضع سابق عن الإعلاميين الذين أصبحوا عبئاً على السلطة بمصداقيتهم المفقودة ومطالبهم المتتالية غير المحتملة) .
الغريب أنه مثلاً في قصة “فودة” ـ طرف خيط البكرة الذي كرّ وراءه كثيرين ـ تكررت القصة بنفس السيناريو الذي تم قبل عدة سنوات مع محافظ الجيزة المستشار “ماهر الجندي”، لدرجة تشابه الرشا من حيث كونها كرافتات وبدل مستوردة! الأمر الذي يطرح تساؤلاً منطقياً: هل كان نظام “مبارك” يقصد ساعتها حين القبض عليه وعلى “الجندي” التطهير والتطهر مثلما تقول عناوين صحف النظام الحالي بتمجيده وإظهاره راغباً في الإصلاح حقاً؟
لايتوقف الجدل حول القضية عند كونها تتضمن عدداً لابأس به من الوزراء والنجوم وأبناء وأقارب المسئولين، بل تتخطى ذلك إلى وضع احتمالات شتى لها، كلها لاترقى إلى درجة اليقين بشأنها، وكلها ـ كذلك ـ لديها من الشواهد والأسانيد ما يدعم صحة فرضيتها!
هذا الوضع المقلوب المتناقض الغريب، يناسب تماماً المرحلة الانقلابية التي تحولت فيها مصر من دولة مؤسسات إلى دولة فاشية شمولية، هذا إذا اعتبرناها أصلاً دولة بوضعها الحالي.
فوزير الزراعة، عند كثيرين، مسؤول شعر بالغدر وأراد ألا يضيع وحده، فقرر فضح الجميع، فجاءته الضربة على حين غرة، وهو خارج من مكتب رئيس الوزراء عقب تسليم استقالته، وقبل أن يتمكن من توصيل ما لديه لأحد يفضح الشبكة القومية للفساد.
والقضية برمتها عند آخرين مجرد تصفية حسابات بين أجهزة وأجنحة في السلطة، بينما هناك من يرى أن وزير الزراعة مجرد كبش فداء لآخرين ولسلطة مأزومة تريد أن تظهر بمظهر المتطهر، وان تغطي على عدد من الأخبار غير السارة للمواطنين أو القرارات الكارثية بالنسبة لهم .
تكهنات:
امتدت التكهنات للمستقبل بشأن وضع عدد من الوزراء الذين حامت حولهم الاتهامات ومنهم وزير العدل، الذي يتردد أنه يدفع باسم أحد مناصريه ليكون نائباً عاماً لكي لا يصدر قرارات ضده.
ويستدل هؤلاء بالقول إنه ليس معنى صدور بيان من القائم بأعمال النائب العام يتضمن أربعة أسماء أن القضية انتهت، لأن وزير الزراعة اختار خيار “شمشون” في التحقيقات، وأخرج من جرابه عدداً من الأسماء والرموز الإعلامية والمسؤولين.
سطور التحقيقات تشير أيضاً عن تورط مأمورة شهر عقاري سجلت أوراقاً بتواريخ قديمة لصالح رئيس تحرير صحيفة كبرى.
هناك من يرى أنه لا قضية من الأساس، وأن المسألة ترجع إلى محاولة المؤسسة العسكرية فرض هيمنتها الكاملة على وزارة مدنية تنافس المؤسسة في وضع اليد على أراضي البلاد، استشهاداً بما نشرته صحيفة الوفد الحزبية المعارضة المقربة من السلطة (الوصف مقصود ودقيق) حين نشرت ما مفاده: طالب الحسين حسان مؤسس حملة “مين بيحب مصر” بفصل الوزارة إلى وزارتين للزراعة وأخرى لاستصلاح الأراضي والمشاريع تقع تحت إشراف كامل للقوات المسلحة، وتضم هيئة التعمير وأراضى الدولة ومركز بحوث الصحراء.
غير أن هذا الفرض يصطدم بحقيقة أنه مهما كانت قوة الوزير الموجود في الوزارة، فإنه لن يستطيع أن يرفض طلباً لهمي، ولذلك فلا حاجة لهم لوضع اليد عليها والتحكم فيها مباشرة بدلاً من وراء الستار.
وهو نفس ما يدحض الفرضية الأخرى القائلة بأن الهدف من إثارة هذه القضية الكبرى هو إحراج وزارة “محلب” المدنية وإظهارها بمظهر الفاشل ليتقدم لقيادتها رئيساً للوزراء؛ رجل عسكري تدعمه الملائكة كما حدث وكشف هو بنفسه أثناء عمليات حفر التفريعة الجديدة، كما أنه يحظى بثقة وحب السيسي ، فالأخير، لا يحتاج لحجة ولا لقرار يتخذه بدليل كل ما فعله ويفعله بالبلاد والعباد منذ الثالث من يوليو 2013 بلا سند ولا مبرر.
هناك من يجمع هذه الخلطة العجيبة من الأسانيد والحيثيات، ليقول: إن “السيسي” يريد ما سبق جميعاً ويضرب عصافير عدة بحجر واحد: إحراج المدنيين “الفاشلين” وأنهم ليسوا منجزين مثل العسكريين الذين “وعدوا” فـ”أوفوا” بحفر التفريعة في سنة، وأنه يريد الهيمنة على وزارة مدنية تنافس المؤسسة العسكرية في وضع اليد على أراضي البلاد، تماماً كما يود إلهاء المواطنين لأطول مدى ممكن بقنبلة دخان، مع الظهور بمظهر الفارس الذي يحطم أصنام الفساد بسيفه البتار.
شبكة الفساد القومي:
المفكر الدكتور نادر فرجاني يورد ما يصفه بمعلومات مذهلة عن تشعب شبكة الفساد المستشري والمسكوت عنها مستشهداً بحصيلة ما جمعه قائلاً:
بعيداً عن قضية فودة التي صدر قرار فوري بحظر النشر فيها، وبعيداً عن عشرات القضايا التي سبقتها سراً وعلانية، إلى أدراج النائب العام، نجد أنفسنا أمام عدة أسئلة شديدة الإلحاح: من يحمي الفاسدين في أجهزة الدولة؟
هناك مراكز قوى اتخذت من الاحتفاء بوجوه الفساد القديمة عبر وسائل وتكتلات إعلامية خاصة قامت بتصنيع وتجميل عودة فودة إلى صدارة المشهد، قبل سقوطه للمرة الثانية، إلى حد ظهوره الدائم واستضافته لنصف وزراء مصر في برامج على الهواء يشاهدها ملايين المصريين يومياً، وتأهبه لدخول البرلمان وتنظيمه مؤتمرات جماهيرية يتحرك لحضورها رئيس النادي الأهلي ودائرة واسعة من الشخصيات العامة التي تتصدر المشهد بمساعدة إعلاميين فاسدين وأصحاب قلم يتعفف القلم عن ذكرهم، ورجال أعمال تعودوا تخليص الأعمال بالطرق الخلفية، إلى الإقامة في جناح فاخر والسهر لتخليص المصالح المشبوهة من جديد على مائدة أحد بارات فندق «الفور سيزونز» جمعت كل ليلة محمد الأمين وأحمد أبو هشيمه ومنصور عامر وثلة من مراكز البيزنس والنفوذ الإعلامي الذين يديرون اليوم عملية منظمة حفاظاً على مصالحهم.
وعلى رأس مائدة المصالح التي تحلق حولها فودة ورفاقه، جلس محمد الأمين الذي كانت بداياته الأولى عندما كان يتردد على مقهى «لابستك» بعد عودته من العمل في الكويت كأي مهندس مصري رحل لتكوين عائلة.
رجل بهذه البداية المتواضعة كيف تحول إلى إمبراطور بيزنس وإعلام يملك ويدير قنوات وصحفاً تخسر مئات الملايين سنوياً دون أن يبالي أو يهتز له جفن، بينما يتوغل وينتشر في الاستحواذ على أسواق هنا وهناك إلى حد أن يمتلك طائرة خاصة تسبق “السيسي” في زياراته الخارجية.
وعلى مائدة فودة العامرة نفسها كان يجلس منصور عامر الذي أصبح دون حق رجل الأعمال الذي لا يقهر في مصر، فهو الوحيد الذي يخرق قانون البناء في أي بقعة من هذا الوطن منذ ما يزيد على عشرين عاماً، وبطول وعرض المنتجعات والأراضي والمدن والمشروعات التي استحوذ عليها أو تربح فيها. وبدأ عامر كرفيقه الأمين بداية خاطفة.
محمد أبو العينين الذي وصل في تحديه للدولة والقانون إلى أن دفع شركة حكومية هي مصر الجديدة للإسكان إلى نشر استغاثة من نفوذه الذي يضيع أرض الدولة على طريق العبور بعد استيلائه عليها رغم الأحكام القضائية النهائية ضده، وتحضرني قصة لم يسبق نشرها حين تصدى المشير حسين طنطاوي ذات مرة لرغبة أبو العينين في الاستحواذ على قطعة أرض وقال له: «كفاية سرقة في أرض مصر»، فما كان من أبو العينين إلا أن شكا لمبارك الذي كلف الفريق أحمد شفيق بفحص شكواه، وبعد أسبوع ذهب شفيق لمبارك وقال له أبو العينين عاوز ينهب الأرض كلها، المشير عنده حق. ولحماية تلك الدولة المترامية الأطراف من الأراضي يطلق أبو العينين قناته الفضائية لإرهاب الجميع، كما حاول إرهاب المشير طنطاوي من قبل في عهد مبارك، ولم يكن مستغرباً أن يتصدى أبو العينين لقرار سحب الأراضي المخالفة من أصحابها في أكتوبر والحزام الأخضر بتوجيهات من السيسي ويقيم الدنيا ولا يقعدها عبر مذيعين وإعلاميين باعوا ضمائرهم على موائد رجال الأعلام في سهرات الليل فقط لأنه أحد المتربحين والمنتفعين من تلك الأراضي.
أسئلة وألغاز:
ويعلق الدكتور “حازم حسني” الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية قائلاً:
عفواً، فلست جهة تحقيق ولا أنا لدي من المعلومات ما يسمح لي بالحكم على فساد أو براءة وزير الزراعة والنائب السابق حمدي الفخراني، بل ولا أعرف أيهما على المستوى الشخصي كي أحكم على شخصيتيهما ولو بالحدس لا اليقين … لكن أشياءً أحاطت بالقضيتين تجعلني أرتاب في الدوافع الحقيقية للإعلان عنهما في يوم واحد.
أول ما يدفعني للارتياب، هو هذا التوظيف السياسي للقضيتين، وهذه العناوين الصحفية الفجة التي روجت هذا الصباح للنظام وللقيادة السياسية باعتبارهما في حملة مقدسة ضد الفساد، رغم أن كثيراً من توجهات النظام ومن قرارات القيادة السياسية هو مما يمكن الحديث عنه بكل ثقة بأنه مخالف لا للقانون فحسب، وإنما للدستور أيضاً كي لا أقول أكثر من هذا!
السبب الثاني للارتياب: هو هذا الإخراج السينمائي لقصة تورط وزير الزراعة في قضية فساد، إذ لا أعرف لماذا تتوجه أربع سيارات دفع رباعي للقبض على وزير قدم استقالته؟ ولا لماذا القبض عليه في ميدان التحرير؟ ولا لماذا كانت الكاميرات حاضرة لتسجيل هذه اللحظة ونشرها إعلامياً لتجريس الرجل رغم أن الأمر مازال قيد التحقيق؟!
السبب الثالث للارتياب: هو هذا التصريح الذي نسبته “المصري اليوم” للواء صلاح الدين زيادة، محافظ المنيا، التي قال فيها: إن حمدي الفخراني تسبب في مطالبات دولية عن طريق قضايا تحكيم دولي على مصر بقيمة 23 مليار دولار!
مرة أخرى، ليس حديثي هذا دفاعاً عن أي من المتهمين حتى تثبت إدانتهما، لكنه فقط تعبير عن تشككي في أن تكون للقضايا المثارة أبعادها السياسية، فضلاً عن أن تكون مجرد صراع بين عناصر منظومة الفساد التي تعارضت، مصالحها يستهدف إعادة الهدوء والاستقرار لغابة الفساد التي اضطربت أحوالها منذ يناير 2011.
ويقول “سلامة البابلي” الناشط في مجال المجتمع المدني وتدريب أصحاب الجمعيات علي العمل الأهلي :
أعرف “حمدي الفخراني” معرفة شخصية منذ أكثر من 10 سنوات بحكم عملي بأحد المشروعات التي كانت تهدف لدعم قدرات الجمعيات الأهلية، ومن أهم جوانب هذا الدعم هو تدريب الجمعيات على ما يسمى بمهارات الدعوة وكسب التأييد (أدفوكاسي)، وقد قمت بتدريب الفخراني وفريق العمل معه وبناته كونه كان ولا يزال رئيساً لمجلس إدارة جمعية أهلية بالمحلة (عيادة شعبية)، وللدعوة لآليات وإستراتيجيات عديدة لدعم القضايا التي تهم الجماهير، منها إستراتيجيات التوعية، وتكوين التحالفات، والتفاوض، والمواجهة…إلخ، ومن بينها أيضاً إسترتيجية رفع الدعاوى القانونية، ومن الواضح أنه لم يستوعب أي شيء مما دربته عليه سوى حكاية رفع الدعاوى القانونية، حيث لا تتطلب جهداً ولا حشداً جماهيرياً، ولكنها تعطي نتائج سريعة ولو بالباطل، وقد هداه تفكيره المحدود إلى أن يستخدم هذه الأداة لتحقيق أغراض شخصية وفساد.
ومثال على ذلك، قضية مدينتي، وقد رفع الدعوى على الحكومة بعد أن رفضت وزارة الإسكان تخصيص قطعة أرض له أسوة بطلعت مصطفى (هو في الأصل مقاول مثله). بالمناسبة، أنا لا أستبعد أن القضية المتورط بها حالياً قد دبرت له لاستبعاده عن الساحة ومنعه من رفع المزيد من القضايا التي ينتج عنها غرامات تقدر بالمليارات على الحكومة المصرية نتيجة قضايا التحكيم الدولية التي يرفعها من بيعت الشركات لهم.
تلك هي القصة.