كلما وقفت أمام ثمرة من ثمرات التدبر في آيات القرآن الكريم، رأيت الآفاق اللانهائية لهذه الثمرات، والتي تمثل للمتدبرين كنوزاً دائمة العطاء على مر الزمان واختلاف المكان، وتنوع الثقافات، تذكرت كلمات د. طه حسين (1306 – 1393هـ/ 1889 – 1973م) وهو أحد بلغاء العصر التي قال فيها: «إن الكلام العربي شعر ونثر وقرآن».
ذلك أن كلام البشر مهما ارتفعت درجته في البلاغة والفصاحة والبيان هو لون من «المعرفة»، والمعرفة في معناها العربي هي: «جزئية، وكسبية، وسبقها جهل»؛ ولذلك فإنها لا ترقى إلى العلم، وخاصة إذا كان علماً إلهياً، إذ إن العلم الإلهي كلي ومطلق ومحيط، ولذلك يقول الإنسان: عرفت الله، ولا يصح أن يقول: علمت الله؛ لأن معرفته نسبية وجزئية، وهو لا يملك العلم الذي يحيط بكنه ذات الله، ولذلك أيضاً يوصف الله سبحانه وتعالى بـ«العالم» ولا يوصف بـ«العارف». فالمعرفة – كل معرفة – هي جزئية، وكسبية، وسبقها جهل، بينما العلم الإلهي والقرآن من أعظم تجلياته كلي ومطلق ومحيط؛ ولذلك كان وسيظل دائماً وأبداً لا تنقضي عجائبه، يجود بالدرر والجواهر للذين يتدبرون آياته عبر الزمان والمكان، فالعقول البشرية إن استطاعت أن تصل إلى نهايات كنه معارف عالم الشهادة، فإنها ستظل دائماً وأبداً أمام آفاق لا نهائية في علوم نبأ السماء العظيم.
ولقد أدرك هذه الحقيقة كل الذين استمعت آذانهم ووعت عقولهم وفقهت قلوبهم آيات القرآن الكريم، حتى من غير المؤمنين بالإسلام، عندما توافر لديهم الإخلاص الذي يفتح القنوات أمام التدبر والتفكر في آيات القرآن الكريم.
ومن قضاة العرب في الجاهلية الملقب بـ«العدل» عندما سمع من رسول الله سورة «غافر»، فأدرك بالتدبر رغم شركه أنه أمام صنعة إعجاز مفارقة لقدرات البشر وعاداتهم وإمكاناتهم، فقال: «والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله ما هو بكاهن، ووالله ما هو بشاعر، ووالله ما بساحر، والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه طلاوة، وإن أصله لمغدق وإن فرعه لمثمر، وإنه يعلو ولا يُعْلى عليه».
شهادة المستشرقين
ومنذ ذلك التاريخ وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تثمر فروع هذا النبأ العظيم من الثمرات الفريدة بقدر ما يخلص المتدبرون في آياته، بقدر ما يحصلون من المعارف والعلوم التي ترفع جودة هذه الثمرات.
ومن خارج الدائرة الإسلامية أيضاً تأتي شهادة المستشرق الإنجليزي «مونتجمري وات» (1909 – 2006م)، الذي أمضى أكثر من ثلث قرن في دراسة الإسلام، شهد بعدها للقرآن، وهو قسيس إنجيلي، ابن قسيس، خدم في كنائس لندن وأدنبرة والقدس، فقال: إن الوحي الإسلامي لا بد من تناوله بجدية، إن القرآن صادر عن الله؛ وبالتالي فهو وحي، وليس كلام محمد بأي حال من الأحوال، ولا هو نتاج تفكيره، وإنما هو كلام الله وحده، وعندما تحدى محمداً أعداءه بأن يأتوا بسورة من مثل السور التي أوحيت إليه كان من المفترض أنهم لن يستطيعوا مواجهة التحدي؛ لأن السور التي تلاها محمد هي من عند الله وما كان البشر أن يتحدى الله.
علماء البلاغة
أما العلامة مصطفى صادق الرافعي (1297 – 1356هـ/ 1880 – 1977م) وهو في القمة من بلغاء القرن العشرين، فهو القائل في نبأ السماء العظيم: إن القرآن قد أُنزل لتكون كل نفس سامية نسخة حية من معانيه، وليكون هو النفس المعنوية الكبرى، فهو كتاب ولكنه مع ذلك مجموعة العالم الإنساني. أما شيخ البلغاء وإمام المجددين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1266 – 1323هـ/ 1849 – 1905م)، وهو أستاذ الرافعي وسعد زغلول فهو القائل: لقد حقت للكتاب العزيز الكلمة العليا على كل كلام، وقضى حكمه العلي على جميع الأحكام، إنه كلام سماوي، تنزل من حضرة الربوبية التي لا يكتـنه كنهها، على قلب أكمل الأنبياء، وهو يشتمل على معارف عالية، ومطالب سامية، لا يشرف عليها إلا أصحاب النفوس الزاكية والعقول الصافية، وإن الطالب له يجد أمامه من الهيبة والجلال، الفائضين من حضرة الكمال، ما يأخذ بتلابيبه، ويكاد يحول دون مطلوبه.
ولكن الله تعالى خفف علينا الأمر، بأن أمرنا بالفهم والتعقل لكلامه، لأنه إنما أنزل الكتاب نوراً وهدى، مبيناً للناس شرائعه وأحكامه، ولا يكون كذلك إلا إذا كانوا يفهمونه.
ولقد تعلم الأصمعي (122 – 216هـ/ 740 – 831م) وهو من مشاهير أئمة العربية وأساطين الفصاحة، تعلم من فتاة عربية، خماسية أو سداسية، كيف فارقت الفصاحة القرآنية المعجزة كل ألوان الفصاحة البشرية، وذلك عندما ضربت له مثل الآية القرآنية الواحدة التي جمعت بين أمرين ونهيين وبشارتين آية: {وّأّوًحّيًنّا إلّى أٍمٌ مٍوسّى أّنً أّرًضٌعٌيهٌ فّإذّا خٌفًتٌ عّلّيًهٌ فّأّلًقٌيهٌ فٌي اليّمٌ ولا تّخّافٌي ولا تّحًزّنٌي إنَّا رّادَوهٍ إلّيًكٌ وجّاعٌلٍوهٍ مٌنّ المٍرًسّلٌينّ (7)}(القصص).
إعجاز لا متناهٍ
إنه الكتاب الذي لا تتناهى ألوان إعجازه، فغير الإعجاز اللغوي والبياني والعلمي وغيرها كثير؛ نجد فيه إعجازاً هندسياً ينتظر التدبر والاكتشاف، وعلى سبيل المثال: فالحروف المقطعة التي بدأت بها بعض السور القرآنية مثل: «ألم» و«حم» و«الر» إلخ، قد اشتملت على نصف حروف الأبجدية العربية أربعة عشر حرفاً، وفي هذه الحروف الأربعة عشر حرفان منقوطان «ق»، «ن»، واثنا عشر حرفاً غير منقوطة، وفي أحرف الأبجدية الأخرى الأربعة عشر حرفان غير منقطوطين هما «و»، «د»، والاثنا عشر الأخرى الباقية منقوطة، وفي هذه الحروف المقطعة نصف الحروف المهموسة في الأبجدية العربية ونصف الحروف المقلقلة، ونصف الحروف المهموزة وفيها من مخارج الحروف النصف من حروف كل مخرج! ونجد أن كل أرباع القرآن الكريم الأربعة قد بدأت بـ«الحمد لله»، فالربع الثاني يبدأ بالأنعام: {الًحّمًدٍ لٌلَّهٌ الذٌي خّلّقّ السَّمّوّاتٌ والأّرًضّ وجّعّلّ الظَلٍمّاتٌ والنَورّ ثٍمَّ الذٌينّ كّفّرٍوا بٌرّبٌهٌمً يّعًدٌلٍونّ (1)} (الأنعام)، والربع الثالث يبدأ بالكهف: {الًحّمًدٍ لٌلَّهٌ الَّذٌي أّنزّلّ عّلّى عّبًدٌهٌ الًكٌتّابّ وّلّمً يّجًعّل لَّهٍ عٌوّجْا (1)} (الكهف)، والربع الرابع يبدأ بفاطر: {الًحّمًدٍ لٌلَّهٌ فّاطٌرٌ السَّمّوّاتٌ والأّرًضٌ جّاعٌلٌ الًمّلائٌكّةٌ رٍسٍلاْ أٍوًلٌي أّجًنٌحّةُ مَّثًنّى وثٍلاثّ ورٍبّاعّ يّزٌيدٍ فٌي الًخّلًقٌ مّا يّشّاءٍ إنَّ اللَّهّ عّلّى كٍلٌ شّيًءُ قّدٌيرِ (1)} (فاطر).
وفي القرآن الكريم ألوان من الإعجاز اللغوي تفرد بها وفارق كل ألوان الكلام البشري، بما في ذلك كلام الأنبياء، فكلمة «المطر» تأتي في العذاب والأذى والانتقام، أما في السراء فتأتي كلمة «الغيث»! ويأتي لفظ «التغيير» للسلبي، وفي الإيجابي يأتي «الإصلاح»، و«المرضع» هي المرأة في فترة الرضاع، أما المرضعة فهي المرأة حال الإرضاع، و«الجسم» يأتي للحي، أما الميت فهو «جسد»، و«السنة» للشمسية، بينما «العام» للقمرية، و«القسم» المطلق اليمين، أما «الحلف» فهو للحنث في اليمين، و«المجيء» من زمان أو مكان قريب، بينما «الإتيان» يستخدم في المكان والزمان البعيد، و«السماء» مفردة وجمع، بينما «الأرض» مفردة دائماً، و«البصر» مفردة وجمع، بينما «السمع» مفرد دائماً، و«النور» مفرد دائماً، و«الظلمات» جمع دائماً.. إلخ.
وبهذه القطرة من البحر المحيط نرى كيف فارقت الصنعة في القرآن الكريم كل صناعات الأساليب البشرية، بما في ذلك الحديث النبوي الشريف»(1).
إنه القرآن الكريم الذي تأخذ هيبته وجلاله وجماله بتلابيب الناظر فيه، لكن الله سبحانه وتعالى الذي جمع فيه الرسالة الخاتمة الخالدة، رسالة النبوات والمرسلين جميعاً إلى كل ألوان الإعجاز المتحدى، قد يسَّر لأصحاب النفوس الزكية، والعقول الصافية، الفهم والتعقل والتدبر لآياته البينات، استخراجاً لكنوزه الهادية إلى الصراط المستقيم، وذلك لطفاً من الله بعباده السالكين مسالك الهدى، والطالبين سعادة المعاش والمعاد.
الهامش
(1) انظر: كتابنا «حقائق وشبهات حول القرآن الكريم»، طبعة دار السلام، القاهرة، الطبعة الثانية، عام 1433هـ/ 2012م.