مررت وصديقي بالحلاق في ناصية الطريق، ولم تكن حاجتنا إليه بالقوية، والجلسة الطويلة المسترخية كما العادة يمكن تأجيلها أسبوعاً أو أكثر.. الذي شدّنا للجلوس هو ذلك الوجه الشآمي الملفع بالحزن!
فتح الحديث بين الغرباء يتطلب جرأةً أول الأمر وعدم توقف عند رد فعل الطرف الآخر.
– كيف الحال يا شباب؟
– بخير.. منيح.. الحمد لله.
– من وين؟
-من سورية.. من حلب.
– الله معكم، الله ينصركم.
– يا رب.
خمسة في سن متقارب يديرون بينهم حديثاً عن السكن، والأهل، والأصدقاء.. واضح أنهم عزاب وفي سكن واحد الآن.
– للآن ما تزوجتوا؟
– من فين نتزوج من فين بنحصل “مصاري”؟!
فرصة للولوج إليهم وبعث رسائل إيجابية، وهم يتبادلون مشاهد وفيديوهات بواسطة جهاز “الآيفون”.
– تعرفون صاحب شركة “أبل” والعقل المطوِّر لهذه الأجهزة الذكية التي بين أيديكم؟
– مين؟
– إنه رجل سوري من بلدكم.. كان مشرّداً لا يجد مأوى، ويمشي عشرة كيلومترات من أجل الحصول على وجبة غداء مجانية من أحد المطاعم.
– بالله؟ هو من سوريّة؟
– نعم؛ وجميل أن تستلهموا هذه التجربة، وألا يجد اليأس إلى نفوسكم سبيلاً! فكيفما تحلم تكون!
– مين هو؟
– “ستيف جوبز”؛ والذي كان اسمه الأصلي “مصعب”، ويقال: إنه من إحدى القبائل العربية المعروفة!
وقد تكون طفولته البائسة ثمرة علاقةٍ زوجية باءت بالفشل ولم يكتب لها الاستمرار.
ميزة الكرسي هنا أنك تقعد لغرضٍ واحد ثم يستدرجك الحلاق لتحسينات أخرى لم تكن في الحسبان وربما لم يستشرك فيها، فيتفقد وجهك وشعر رأسك و..
يعمل ببطء وصبر وسعة بال، فليس وراءه ما يشغله، ولسان حاله يقول: “يا مهنا جاك ما تمنى”، والوقت يعمل لصالحه.
كنت أزوّر في نفسي أن هؤلاء نازحون يعانون وأهلهم الغربة، وفرص العمل قليلة، ولابد أن ننفحهم بالمزيد ونكرمهم.
– شكراً.. كم الحساب؟
– ٢٠٠ ليرة!
– معقول؟ مبلغ كهذا مقابل حفّ الشارب فحسب؟ وجدل وإصرار على خفض المبلغ.
سؤال يثور بدواخلنا: ما الذي تغيّر؟ أين ما كنا ننوي أن نفعله احتساباً؟
إننا نعطي بطوعنا واختيارنا من الوقت والمال ومن الحقوق الشخصية ونتنازل عن الكثير برضا وارتياح؛ لأن الأريحية تهزنا وتصنع لدينا الدافع الذاتي، ولكن حين نكون أمام “محاققة” أن هذا حق لي وهذا حق لك.. فهنا يحضر الشُّح، ويغيب الدافع، وتضيق النفوس.
حصل الفتى على مبلغ أقل مما أراد وأقل مما كنا ننوي، ومن دون “نفس”؛ لأننا حينئذٍ أمام تحدٍّ لإثبات أنه لا يستطيع خداعنا بالحصول على ما لا يستحق!
لو عقل هذا الأب في تعامله مع أبنائه، والمربي مع طلابه، والرئيس مع مرؤوسيه، والداعية مع متابعيه، والزوج مع زوجه.. إنك تستطيع أن تحصل بالسماحة والتراضي واللِّين والأريحية على أضعاف ما تأخذه بالقسر والغلبة والإكراه والضغط.
وقديماً كان السلف يقولون: “الكلام الليِّن يغلب الحق البيِّن”!
ليست الوسيلة الوحيدة، وليست الوسيلة الأفضل أن تلحّ على الآخرين وتلزمهم بأن يفعلوا وأن يقدموا.. الأفضل أن تصنع لديهم الدافعية والحماس.
حين تحرك في الآخرين الرغبة الذاتية في البذل فأنت تفتح باباً واسعاً للتنافس في العطاء والبذل والتفاني والتغلب على شح النفس (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {16}) (التغابن).
ولذا كان الله: “يُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ” (رواه مسلم عن عائشة).
وحين تتحول إلى مطالب ومغالب يحمل عصا الشرطي، أو يضع نفسه في كرسي القاضي.. فأنت تُلقِّن الطرف الآخر أن يقول “لا” بملء فيه.
فرقٌ بين أن تتعامل مع إنسان بثقة وتقدير وتترك الخيار له، وبين أن تُشعره بالقهر والإلزام وأنه لا يملك إلا أن يُنفِّذ.
لو كنتُ وصديقي أفضل مما كنا لضاعفنا له العطاء، وقلنا: نحن لا نتعامل معك بمنطق الحق والواجب، بل بمنطق الحب والتكريم.. سنمنحك ما تقتضيه نفوسنا منا، لا ما يقتضيه الحق اللازم علينا، ولكن كما قيل: “المرجلة تغيب وتحضر”.
ولو كنتُ أفضل مما أنا لتجاوزت عن شريك الحياة زلّته وتجاهله لألمي ومعاناتي وقسوة الخصوم من حولي، واكتفيت منه بما تطيق نفسه دون تكلُّف؛ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ {199}) (الأعراف).
ولو كنتُ أفضل مما أنا لغفرت لولدي جفاء طبعه ولعله ورثه مني!
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {35}) (فصلت)