سألتني: ونحن في الطريق إليك دكتورة، قلت لخطيبي: ما المانع أن نفكر في حفل زفاف مختلف، ليس تقليدياً وعادياً؛ بحيث يكون فيه من الجديد ما يستحق أن يُقلَّد بعد ذلك؟
فقاطعها: هي لا تراعي أعرافاً ولا تقاليد ولا غيرة ولا وضعاً مادياً.
ردت عليه: لا.. غير صحيح.. فقط كنت أقترح الفكرة، ولم أفكر بعد في كل تفاصيلها، فتعنَّتَ كما تسمعينه يا دكتورة!
قلت: حسناً.. حسناً.. اهدآ لكي نتفاهم بعد أن نفهم طبيعة المشكلة.
قال: هي تريد أن تصمم حفلاً من أول الفستان والسيارة والأكل والقاعة.. كل شيء مناقض لما جرت عليه العادة في مثل هذه المناسبات، دون مراعاة لأي شيء.
قالت غاضبة: هكذا يصر على ردعي، وكبْت رغباتي وطموحاتي.
قلت: لا.. ليس هكذا؛ فاهدئي أولاً لأحدثكما عن طبيعة الاختلاف بينكما.
قال: لا ندري من أين نأتي بك يا دكتورة بعد الزواج لتحلي لنا المنازعات وتكوني عاملاً ملطفاً بيننا؟!
قلت ضاحكة: بل أنتما وصلتما إلى مستوى عالٍ من تفهم ذلك من تلقاء نفسيكما، وتدخل أي أحد في حياتكما يجب أن يكون له حدود.. بل حدود ضيقة جداً، ولا تسمحا بتدخل أحد مهما كان إلا في حالات نادرة.
قالت: قد يستحيل التفاهم أحياناً ونحن نريد وسيطاً.
قلت: لا.. الوسيط هذا كان له وقت وانتهى، ودور الوسيط يقتصر على شرح قواعد وأساسيات، بناء عليها تتفهمان المشكلة، والوسيط لا يحل شيئاً إلا في حالات، لن تصلا إليها، إن شاء الله.
قال: نعم بالفعل.. حياة الزوجين مليئة بالأسرار، والستر بينهما هو ركيزة بيت الزوجية.
قلت: وما أعظمها من ركيزة تقوم عليها الحياة الزوجية والأسرية، وذلك يتأتى من خلال تصنيف كل منكما للآخر ومعرفة اهتماماته.
قالت: وما رأيك في رفضه لرغبتي في حفل الزواج والزفاف؟
قلت: الإنسان أحياناً ينطلق تفكيره خارج الصندوق إلى أشياء غير مألوفة، ويرى فيها السعادة والإشباع النفسي، والبعض يرى أن الخروج عما ألفه الناس نقيصة.
قال: أوليس الخروج عن العادات والتقاليد شيئاً معيباً وتمرداً على الأصول؟
قالت بانفعال: هكذا يا دكتورة.. هو يصنف أي شيء خارج إطار العادات والتقاليد إلى تمرد وإنكار وانفصال.
قلت: ليس كل الخروج على العادات والتقاليد سُبَّة، ويجب ألا ينظر لها المجتمع تلك النظرة.
قالت: العادات والتقاليد ليس أكثرها سيئاً، ولا معظمها حسناً.
قلت: نعم.
قال: وما الضابط إذاً؟
قلت: خضوع العادات والتقاليد للدين وأحكامه، ثم العرف المعمول به في المناخ المحيط بك، إن لم يكن به ضرر، ثم المفسدة والضرر.
قالت: إذاً اختيار أمر غير مألوف لا يخضع للخطأ والصواب؟
قلت: ليس على إطلاقه بالتأكيد.. لكن هذه هي مشكلة معظم الشخصيات المبدعة المخترعة، وتفكيرهم دائماً خارج الصندوق، على عكس أشخاص آخرين يقدسون كل ما هو مجرب من باب المثل القائل: «ما نعرفه أفضل مما لا نعرفه»؛ فهو يحب الشيء المضمون المعروف، وعلى عكس الثاني الذي يتمرد على كل ما هو قديم يحب كل جديد، يبحث دائماً عن الغريب، ويبحث في غير المألوف.
قال ضاحكاً: هي لا تفكر خارج الصندوق فقط، بل لا يوجد صندوق أصلاً!
قالت: هكذا هو؟
قال: لكن دكتورة، أيهما أفضل؟
قلت: ليست القضية أفضلية، لكن متى تكون هذه الصفة ذات تأثير سيئ، أو ذات تأثير إيجابي؟
قالت: والتغيير والتجديد شيء جميل بالتأكيد.
رد عليها: والشيء المضمون والمجرب أجمل.
قلت: والأروع والأجمل أن تكتملا.
قالت: كيف؟
قلت: أن تدركي أنه من عالم لا يحب المغامرة كثيراً.
علا صوته: بالفعل.. بالفعل.. هكذا أريد أن أوضح لها أن المغامرة غير مأمونة.
قلت: والنمطية وعدم التجديد والابتكار جمود وملل.
قالت: أعرف أنه عند اختيار أي جديد لا بد أن يخضع لمعايير التكلفة المادية والبدنية والمعرفية ورد فعل الناس تجاهها.
قال: وأنا أدرك أيضاً أن الجمود والثبات مميتان، وأن عدم التغيير والابتكار جمود بالفعل.
قلت: لولا عقلية المبدع هذا الذي يفكر خارج الصندوق ما كان حجم هذه الاختراعات التي نتمتع بها من أجهزة ومعدات واكتشافات علمية وغيره.
قالت: نعم.. مثلاً المألوف منذ زمن أننا كنا نتحرك على الدرج صعوداً وهبوطاً، والآن نحن نقف وهو يتحرك، وغيره، وغيره الكثير من ابتكارات عقلية المبدعين أمثالي.
قال: ولولا الأناس المنظمون ما كانت هناك حياة أصلاً.
قلت: لولاهم ما دخلت أفكار المبدع حيز التنفيذ من خلال مرحلة النقد والتنقيح والتصحيح.
قالت: إذاً.. شخص يبتكر، وشخص ينفذ.
قلت: هكذا يمكن أن يتكاملا، لو فهما كل منهما لغز الآخر.
قالا: وما هو؟
قلت: إن لكل واحد منهما مفتاحاً؛ إما أن يفتح باب الإقناع، وإما أن يوصده تماماً؛ ليفتح باب المشكلات.
قال: نريد توضيحاً أكثر.
قلت: الشخص المبدع مفتاحه التجديد والتنويع، وأن يقدَّر ذلك فيه حينما يطرحه، ونحاول أن نرى فيما يطرحه كل رائع، ثم وقت التنفيذ تفرض الموضوعية نفسها، وتوضع في قالب الخطوات العملية التي تحجم المغامرة لديه.
على النقيض من الشخص الثاني الذي لا يميل إلى المغامرة، ويحرص على أن تكون النتائج محسوبة ومضمونة؛ فلا تحدثه في الجديد دائماً إلا إذا كان من أشخاص ثقات جربوه ووثقوا به، أو من خلال حقائق ثابتة تؤكد نجاحه.
قال: هل هذا ممكن؟
قلت: عليَّ أن أرى بعين الآخر، وأن أضع نفسي مكانه، فأمنحه الحق في أن يكون له رؤية ورأي غير رأيي، وأن رأيي ليس على الدوام صواباً بل يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب؛ فكل منا له الصواب وله الخطأ.
قالت: وما النصيحة التي تسدينها إلى هؤلاء؟
قلت: اهتم بأشياء أخرى، واشغل نفسك عن الطرف الثاني حتى يكون لديك متنفس آخر تجد فيه إبداعك، وتحجمه، وتراعي من يعيشون معك، ولا يوافقونك، ومن حقهم الاعتراض عما تقترحه، كما لك الحق في ذلك أيضاً.
قالت: وماذا عن الآخر؟
قلت: هكذا أيضاً.. لكن عليه أن يخفف حدة نظامه ودقته وحكمته لكل شيء، ويتغاضى عن أخطاء المغامر الذي يتعايش معه في بعض الأمور السهلة ذات النتائج البسيطة، أما غير ذلك فله الحق أن يحاسب وينظم حياته.
قالا: دكتورة، كم سعدنا وارتحنا بهذا الحوار كغيره دائماً معك، وستكونين أول المعازيم في الفرح غير المألوف (قالها وهو ينظر إليها ضاحكاً). فردت بابتسامة: لا فائدة.
قلت: بل كل الفائدة إن شاء الله، وأراكما على خير حال الموعد القادم، إن شاء الله تعالى.