في عالم يموج بالمفاهيم المغلوطة، والمقولات المغالية، والمصطلحات التي لم يتم تحرير مضامينها، وبعد أن تجاوزت هذه المفاهيم والمقولات والمصطلحات ميدان الفكر إلى حيث فجّرت وتفجّرت عنفاً دموياً، عانى ويعاني منه ملايين العباد في كثير من البلاد، فمن الواجب المبادرة إلى تحديد المفاهيم وتحرير المقولات، وهنا سنسعى في خلاصات موجزة استكمال تحرر وتجلّي المضامين الدقيقة لأهم المصطلحات والمقولات التي سببت وتسبب هذه البلبلة الفكرية، التي أوقعت قطاعات من الناس في التطرف الفكري، والتي دفعت البعض إلى السقوط في مستنقع العنف الدموي، مصطلحات: «الجهاد، والقتال، والإرهاب».
كان مصطلح «الجهاد» – مع الأسف والعجب! – من أكثر المصطلحات التي أصابها سوء الفهم، بل وسوء الاستخدام، فدوائر غربية فكرية وسياسية حسبته مرادفاً لـ«الحرب الدينية المقدسة» التي أفرزها اللاهوت في الكنيسة الكاثوليكية الأوروبية، والتي فجرت حرباً عقائدية للإكراه – بالقتل والقتال – على تغيير الاعتقاد، والتي دارت بين الكاثوليكية والبروتستانت، وأبيد فيها حسب إحصاء «فولتير» (1694 – 1778م) عشرة ملايين، وحسب إحصاء «هنري كيسنجر» 40% من شعوب وسط أوروبا.
والحقيقة أن «الجهاد» في المفهوم الإسلامي وفي الحضارة الإسلامية هو شيء آخر، مغاير، بل ومناقض لكل هذه المفاهيم والتصورات الخاطئة التي رُمي بها.
فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع والطاقة في أي قول أو فعل بأي ميدان من ميادين الخير والإصلاح في الحياة، وكما يقول مجمع اللغة العربية – في «معجم ألفاظ القرآن الكريم» – فإن «أكثر ما ورد في الجهاد في القرآن الكريم ورد مراداً به بذل الوسع في نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عنها»، وهذا المعنى هو الذي جاء في «التعريفات» للشريف الجرجاني (740 – 816هـ/ 1340 – 1413م) الذي عرّفه بأنه «الدعاء إلى الدين الحق».
ومعروف ومشهور أن هذه الدعوة؛ أي هذا الجهاد، هي بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وقبل كل ذلك وفوقه، فإن القرآن الكريم في الآية التي وصف فيها الجهاد بالكبير، إنما كان يعني الجهاد بالقرآن، أي بالكلمة الحكمة والدعوة الحسنة، وليس بالعنف ولا بالقتال؛ {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} (الفرقان)، كما اعتبر القرآن الكريم الدفع – أي الحراك الفكري والسلوكي – بالتي هي أحسن في مواجهة العدوان جهاداً يغيّر موازين القوى بين الفرقاء المتدافعين؛ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} (فصلت).
وجدير بالملاحظة اختيار القرآن لمصطلح «الدفع» وهو حراك سلمي، ورفضه لمصطلح «الصراع» اللصيق بالعنف – في كل ميادين الإصلاح – دينياً كان أو دنيوياً.
فلا علاقة من ثم لمفهوم «الجهاد» بالحرب الدينية المقدسة، ولا بالعنف والقتال وإكراه الآخرين على تغيير الاعتقادات والإرادات.
وفي مواجهة الذين اختزلوا الجهاد في القتال، نجد علماء الإسلام في التفسير والمصطلحات يؤكدون شمول الجهاد لما لا يكاد يحصى من المجاهدات السلمية؛ جهاد النفس، جهاد الشيطان، مجاهدة الشهوات والأهواء، بذل المال، التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، الإحسان والعفو والصفح بدلاً من القصاص؛ أي تقديم الإحسان على العدل، طلب العلم، بر الوالدين، الحج والعمرة تطوعاً، الصبر على المكاره، والمجاهدات الروحية؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد بالكلمة – نثراً وشعراً – كما كان في صدر الإسلام، وترويض النفس على استشعار الجمال في هذا الوجود.. إلخ، ففي جميع هذه الميادين السلمية جهاد.
ويشهد على هذه الحقيقة – حقيقة استقصاء الجهاد عن أن يختزل في القتال – أن «الجهاد» هو فريضة عينية لازمة على كل مسلم ومسلمة؛ لأنه مستطاع لكل المكلفين، وفق القدرات التي امتلكها ويمتلكها هؤلاء المكلفون، وفي أي ميدان يستطيع المكلف أن يبذل جهده ويستفرغ وسعه فيه – بسائر ميادين العبادات والمعاملات – بينما كان «القتال» الذي هو شُعبة محددة ومحدودة من شُعب الجهاد مشروطاً بشروط، وله ميادين محددة، ضبطها القرآن الكريم في الآيات التي تحدثت عن القتال؛ ولذلك كان الجهاد فرض عين على كافة المكلفين، بينما كان القتال فرض كفاية على البعض.
كذلك تميزت فلسفة الإسلام في القتال عن كثير من الفلسفات والأنساق الفكرية الأخرى.
فعلى حين رأته فلسفات وحضارات غريزة إنسانية لاصقة وحاكمة، بل ورأته سبيلاً من سبل التقدم والانتخاب الطبيعي والارتقاء، رآه الإسلام الضرورة والاستثناء، بل والاستثناء المكروه!
وفي القرآن الكريم كتب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين العديد من الفرائض، لكنه عندما كتب عليهم القتال نبه على أنه مكروه؛ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } (البقرة:216)، ولقد أكدت السُّنة النبوية التي هي البيان النبوي للبلاغ القرآني هذه الحقيقة المهمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته وأمته: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، وأكثروا ذكر الله» (رواه الدارمي).
ولقد قطع القرآن الكريم بالطابع الدفاعي للقتال عندما قال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ “190”} (البقرة).
ويزكي هذه الحقيقة – حقيقة الطابع الدفاعي للقتال المشروع – أن الشهيد هو الذي يُقتل في الدفاع، لا في العدوان، والحديث النبوي يحصر هذه الحالات الدفاعية عندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد» (رواه الترمذي).
ولذلك، كانت حروب دولة النبوة جميعها دفاعية؛ دفاعاً عن المدينة – دار الإسلام – وعن الدين الذي اختاره المؤمنون الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، ولم يتعدَّ الذين قُتلوا في كل تلك الحروب التي فُرضت على المؤمنين 386 من شهداء المسلمين وقتلى المشركين.
أما الفتوحات الإسلامية، فلقد دارت جميع معاركها ضد المستعمرين من الروم والفرس، وشارك فيها أهل البلاد المفتوحة إلى جانب المسلمين، فكانت تحريراً للأوطان والضمائر والعقائد، ولم تكن حرباً لإكراه الناس على تغيير الاعتقاد، حتى إن نسبة المسلمين في الدولة الإسلامية بعد قرن من الفتوحات لم تتجاوز 10% من السكان!
وفوق ذلك كله، فلقد سن الإسلام في هذا القتال – الاستثنائي المفروض والمكروه – وفي هذه الحرب الدفاعية، وهذه الفتوحات التحريرية سُنَّة حسنة، بلورها الصديق أبو بكر رضي الله عنه في «ميثاق الفروسية الإسلامية»، عندما أوصى قائد جيشه يزيد بن أبي سفيان (18هـ/ 639م) وهو ذاهب لتحرير الشام من المستعمرين البيزنطيين فقال له: «إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله (الرهبان) فدعهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجرة مثمرة، ولا تخربنّ عامراً، ولا تعقرنّ شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تحرقنّ نخلاً، ولا تفرقنّه، ولا تغلل، ولا تجبن» (رواه مالك في الموطأ).
وهو ميثاق لحماية كل من عدا الجند المقاتلين المعتدين بل ولحماية الطبيعة، بما في ذلك الحيوان والشجر والحجر!
هذا هو القتال، وهذه هي فلسفته، ومواثيقه في الإسلام.
أما «الإرهاب» الذي رمى البعض به الإسلام، حتى قبل تعريف له ولا تحديد لمعناه: فهو كما جاء في «معجم العلوم الاجتماعية» الذي أصدره مجمع اللغة العربية: «استخدام العنف غير المشروع لترويع الآمنين، وإكراههم على قبول ما لا يريدون».
هذا هو التعريف الفلسفي والاجتماعي للإرهاب، فهل لهذا العنف غير المشروع لترويع الآمنين، وإكراههم على قبول ما لا يريدون أدنى صلة أو شبه بما جاء في القرآن الكريم عن هذا المصطلح؟!
لقد جاء في القرآن الكريم بسورة «الأنفال»:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } (الأنفال).
وهذا المعنى القرآني لمصطلح الإرهاب هو على النقيض من المعنى الذي جاء لهذا المصطلح في المعاجم الفلسفية والاجتماعية الغربية، فالمعنى القرآني للإرهاب هو التخويف لردع الخونة والمخادعين والغادرين كي لا يغدروا بالمسلمين المعاهدين، وهو تخويف يثمره إعداد القوة الرادعة، وليس تخويف العدوان والعنف والإكراه وترويع الآمنين؛ أي إنه التخويف الذي يمنع وينفي العنف والقتال والإكراه، فهو كالعقوبة الرادعة المخيفة، إعلانها يمنع الجريمة ويردع المجرمين.
ولو أن اليابان مثلاً في الحرب العالمية الثانية كانت قد أعدت السلاح النووي، لأرهبت وأخافت أمريكا، ومنعت مأساة هيروشيما وناجازاكي في أغسطس 1945م، ولأن الاتحاد السوفييتي قد أعد الرادع النووي والهيدروجيني فلقد أرهب – أي أخاف – أمريكا، فمنع مأساة الإبادة الجماعية إبان الحرب الباردة بين الرأسمالية والشيوعية، وكذلك حال باكستان مع الهند.
إن مصطلح «الإرهاب» في القرآن الكريم مثله في المعنى كمثل مصطلحات «الرهبة» و«الرهبانية»، أي الخشية من الله سبحانه وتعالى؛ {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ “154”} (الأعراف)، {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ “40”} (البقرة)، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ “90”} (الأنبياء)، {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } (الحديد:27)، وليس في أي من مضامين هذه المصطلحات القرآنية ما يشي من قريب أو بعيد للمعنى الذي ارتضاه الفكر الغربي للإرهاب، معنى: العنف غير المشروع لترويع الآمنين، وإكراههم على قبول ما لا يريدون.
ومع ذلك وصم كثير من مفكري الغرب وساسته الإسلام بالإرهاب، بل وشنوا عليه الحروب تحت شعار الإرهاب!
ولقد أفصح المستشرق الصهيوني «برنارد لويس» عن هذه الحقيقة عندما زعم «أن إرهاب اليوم هو جزء من كفاح طويل بين الإسلام والغرب، فالنظام الأخلاقي الذي يستند إليه الإسلام مختلف عما هو في الحضارة اليهودية والمسيحية الغربية، وآيات القرآن تصدِّق على ممارسة العنف ضد غير المسلمين، وهذه الحرب هي حرب بين الأديان»!
كما كشفت «مارجريت تاتشر»، رئيسة وزراء إنجلترا السابقة، عن حقيقة مقاصد الغرب من وراء وصم الإسلام بالإرهاب، وذلك عندما تحدثت عن أن «الإرهاب الإسلامي الفريد – كذا – إنما يشمل كل الذين يرفضون القيم الغربية، وتتعارض مصالحهم مع مصالح الغرب»!
وهو ما جعل فيلسوف صراع الحضارات «صموئيل هنتجتون» (1927 – 2008م) يدعو إلى «حرب داخل الإسلام، حتى يقبل الإسلام الحداثة الغربية، والعلمانية الغربية، والمبدأ المسيحي: فصل الدين عن الدولة»!