ملاحظات اليوم من ربوع أوروبا الخضراء التي أنعم الله عليها بالطبيعة وأهداها لإنسان يستحقها، كنت قد نقلت تجربتي في نيويورك بعنوان “اقتصاديات التخلف”، واليوم قضيت في بلاد أوروبا الجميلة وآخرها النمسا أسبوعاً، وزرت مصحة للشباب والكبار، واتضح لي تماماً لماذا نعيش أوهام التنمية والتقدم ونجتر مصطلحات بالية.
عندما ذهب الطهطاوي إلى فرنسا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وسجل ملاحظاته في “الإبريز في تلخيص باريز” أورد ملاحظة بالغة الأهمية لم يهتم بها للأسف سوى كرومر، المعتمد البريطاني في مصر، الذي أذل الساسة المصريين خلال الاحتلال البريطاني لمصر لأكثر من 24 عاماً، وهي تتعلق بتفنن الفرنسيين في ترتيب المصالح والخدمات، يعني بذلك البنيان الإداري والحكومي، وإذا كان الطهطاوي كتب وحاول أن ينجز في مجال الترجمة، فإن الأجيال المتأخرة في العصر الجمهوري الزاهر بعد الخلاص من الحكم الملكي “المقيت”، وبعد أن تولى حكم مصر أبناؤها فرفلت في النعيم بعد شقائها مع الأجانب، أقول: إن هذه الأجيال تفننوا في شقاء الشعب المصري، وفصلوا تماماً بين علوم الغرب والاحتيال مع السلطة للرفعة والأبهة، وأتحدى واحداً منهم بعد السبعينيات وباستثناء د. حجازي، قد أفاد مصر الوطن والدولة، فمنهم من رفع بهتاناً شعار الليبرالية وهي منهم براء، ومنهم قد ملأ الدنيا صخباً عن الإصلاح الاقتصادي واليساري والتقدمية، وكلهم أدوات في يد من هم أقل منهم علماً وشأناً، ومنهم من نبغ في علم المال لكي يتفنن في إشقاء الناس بالضرائب، وفي سرقة المال العام، أعلام في علومهم وفي الخارج، لصوص ومخربون لوطنهم، أما في عهد مبارك الميمون، فإن انبطاح هذه النخبة تحت أقدام النظام في ذل عجيب سيظل قصصاً تروى لأبنائهم وأجيالهم المقبلة.
تقدم الغرب؛ لأن المجتمع ارتضى لنفسه أسلوب حياة في الاجتماع وفي الاقتصاد وفي السياسة وارتكز على قاعدة الحرية الفردية التي منحها الله للإنسان حتى في علاقته بالخالق وأحكام العقيدة، فصار هذا المجتمع حراً يضم أحراراً، القانون سيدهم والحاكم خادمهم، ويتسابق الخدم في السلطة لإرضائهم، هذا المجتمع يدقق في مواهب أبنائه، فيعمد إلى تنميتها في جو الحرية والإبداع، فيحتضن المبدع في كل مجال ويقدمه ليحمل أركان الدولة ويختار للمناصب العامة أفضل القادرين على خدمتها، لأن هذه المناصب ملك الشعب، وليس مكافأة لقائد عسكري تقاضى مرتبه وترقيته وأدى واجبه فأقطع مصر ثلاثين عاماً، وكرس سلطة الجيش في السياسة والحياة العامة وضرب الداخلية بالجيش، والشعب بالحكومة، والمسلمين بالأقباط وأنشأ دولة بوليسية أمنية صادرت الحريات وخانت الأمانات وأذلت الشعب وقهرته وأفقرته وأمرضته ثم جاء قضاء هذه الدولة فاعتبر مبارك ونظامه بريئاً براءة الذنب من دم بن يعقوب، بل إن جزءاً من الشعب يأسف لما لحقه من أذى وعدم امتنان لهذه الخدمات، هذا هو الشعب الذي قال فيه القرآن ما قال، وهو الشعب الذي كلما استخف به الحاكم ازداد له خضوعاً، وهو نفس الشعب الذي انتحر بعض أفراده حزناً على استقالة رئيس مهزوم في كل شيء، بل وتحمل أحزاب قميصه ويعمد مؤرخون إلى تزوير التاريخ لشعب عقد العزم على استسلام بلا عقل للقدر والنصيب، وصبر صبر الحمير وليس صبر المؤمنين المحتسبين، فجزاؤه في الدنيا ما نرى، وفي الآخرة تنتظره آية محكمة؛ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا) (النساء:97)، وإذا هاجروا إلى أوروبا حملوا معهم أفكارهم المتخلفة وأصموا آذانهم عن رؤية طرائق الحياة والعبرة منها، فعمد بعضهم إلى إرهاب هذه الشعوب “نصرة لدين الله”، والله منهم برئ، هذه الشعوب تجدّ في العمل، فترى الدولة والقانون عملهم، فإذا مرضوا أو هرموا وجدوا الدولة سنداً لهم ترد لهم ما أسلفوا في أيام شبابهم وصحتهم، ردد البلهاء منا مصطلحات تليق بالتخلف والتجهيل، اخترت عينة منها اليوم.
المصطلح الأول: أن الله يختبرنا بالشقاء حتى نصبر ونأخذ جائزة الصابرين، وأنا أميز بين صبر الحمار وصبر المحتسب الذي ضاقت به الأرض، فعل كل ما يقدر من فهمٍ وإدراك وصمود فغلبت عليه شقوة غيره.
المصطلح الثاني: هو الشهيد، عندهم معنى واحد للشهيد هو القديس وهو الذي قضى دفاعاً عن المسيحية، وقد استغرب من التقيت أن يكون الناس عندنا إذا قتلوا قديسين فأوضحت لهم الفرق بين الشهادة الدينية والشهادة السياسية والشهادة الدراسية على تفصيل في مقال آخر.
المصطلح الثالث: هو حقوق الإنسان والنزاهة وطهارة اليد والاستقامة، فقلت لهم: إن كل هذه مصطلحات للاستهلاك المحلي، وعندما يستخدم المستهلكون عقولهم سوف يطاردون جلاديهم الذين أمموا عقولهم واستخفوا بأفهامهم فاحترقت قلوبهم.
إن مصر تكون جنة إذا توافرت لها ظروف الصلاح السياسي، أما الصلاح الديني فله شأن آخر، وإلى أن يدرك الشعب المصري وتنصلح نخبته الفاسدة في جميع المجالات يصح الحديث بعد ذلك عن الانتماء وغيرها، وحتى لا أستفيض بعبارات جارحة لهؤلاء الذين فقدوا رداء الحياء، أتحداهم أن نجري مناظرة مفتوحة في أي محفل حتى على الإنترنت حول أوضاع مصر في العصر الملكي، وأوضاعها تحت الحكم الجمهوري، وعلى كتبة التاريخ الذين يستكتبون كالندابات في جميع النظم أن يدركوا أن كتابتهم لم تعد الرواية المقررة في الكتب الدراسية، فقد فاقت فطنة الشباب ألاعيب الشيوخ.
في أوروبا يأمن الخائف، ويغاث الملهوف ويعالج المريض، ويمارس الحريات الدينية والسياسية والثقافية، لقد اكتست الأرض خضرة بمجرد رحيل الثلوج في جو الحرية والإبداع، فإن ضاقت أوروبا بالعرب والمسلمين فهذه قضية تعالج الجزء الآخر منها.
المصطلح الرابع: أمجاد مصر ودورها الذي عادت تمارسه، أشدد ابتداء أن مصر تتمتع بمقومات التقدم والحضارة، وقد صار لدي يقين بأن كرومر كان صادقاً عندما قال لسعد زغلول: إن استقلال مصر لن يستطيع المصريون صيانته، وإنها ستظل نهباً لأطماع الآخرين.
كان الجنيه يشتري ثلاثة دولارات، و5 ريالات سعودية، واليوم قارن بين قيمة مصر وقيمة الجنيه، فصارت مستقلة فعلاً، علماً بأنه لا استقلال لمن يمد يده بدون مبرر إلا إذا كان قد أدمن طلب الإحسان، وأنا أجل المصريين وبلادهم عامرة بكل ما يكفيهم.
تتباكى النخبة على دور مصر الذي تراجع، ويطبل حملة المباخر لدور مصر الذي عاد، أي دور تقصدون؟ إنه الوزن الثقافي والمعنوي، كانت مصر تتمتع بأوهام رعاية الكبار وتوقير الوالدين، واليوم جرائم القتل وحتى قتل الوالدين سلبت مصر ميزتها الوحيدة التي كانت تميزها عن غيرها فجمعت مصر بين الجانب السلبي للنفس المصرية، والتردي الاقتصادي والاجتماعي، ففقدت مصر الميزة المعنوية، وأفسدت المادة نفوس الناس، ورحلت البركة وحل الحقد محل الحب، والتباغض محل التضامن والأنانية واجتياز خطوط الحلال والحرام محل التدين السلوكي الفطري والرحمة وتوازن الدنيا والآخرة بالتطبيق الصحيح للدين.