أربعون سنة – وتزيد – تفصلني الآن عن أول محاضرة ألقيتها في مكتبة (مسجد الضالع)، وكنت طالباً في السنة الثالثة المتوسطة، وكان موضوعها (تفسير سورة يوسف).
منذ ذاك وإلى اليوم ألقيت آلاف الخطب والدروس والمحاضرات والبرامج والندوات، وغالبها محفوظ موثَّق بالصوت والصورة.
وكتبت المقالات بانتظام؛ مقال أسبوعي لم يتوقف بفضل الله، وإذا حجب في مطبوعة انتقل إلى غيرها، وآخر أسبوعي ينشر في (الأهرام) على مدى سنتين، ومقال ثالث شهري يتعلّق بالسيرة الذاتية.
والذي أخافه حين ألتفت إليها هو غياب النية الصالحة، وأن تتحوَّل أعمالي إلى منافسة لنظرائي، أو مراغمة لخصومي، أو سعي وراء الجاه والشهرة وثناء الناس.
أما خطؤها وصوابها فأحمد الله أنه لم يكن في شيء منها جنوح إلى مسالك الغلو والتطرف، حيث تلقَّنت في محاضني الأولى التحذير من مسالك الغلاة، ثم صار هذا نمطاً أقوله إذا حانت مناسبته.
ولم يكن فيه تساهل في التغرير بالشباب وحفزهم إلى مناطق التماس والقتال، حتى يوم كانت السلطة السياسية والسلطة العلمية تدعو إلى ذلك وتسهل أسبابه، تحت ذريعة محاربة (الدب الروسي)؛ الطامع في مياه الخليج!
ولست أدري – والله – أكان ذلك الدب فعلاً يطمع في مياه الخليج، أم كانت تلك وسوسة أمريكية لحملنا شعوباً وحكومات على مقاتلة القطب المعادي للغرب بالنيابة عن الغرب وبالسلاح الفتاك (الجهاد)!
وقتها قلت لهم: تبرَّعوا بقيمة التذكرة وابقوا عند أهلكم، وتعلَّموا، وابنوا حياتكم ومستقبلكم، ولا تخوضوا حروباً أكبر من طاقتكم وأبعد من تفكيركم!
حدث هذا أيام أفغانستان، ثم أيام العراق، ثم أيام الشيشان، ثم أيام سورية، ولا يزال معنى ألهج به وأتحمل من أجله هجمات الغاضبين والمتحمسين؛ الذين يتصدَّرون المشهد بأصواتهم العالية، ويرمون الصوت المخالف لهم بأقسى السهام، ويصفونه بالتخذيل والنكوص عن الجهاد، وترك الثغور لأعداء الأمة، وبأنه باع دينه بعرَضٍ من الدنيا، وصار عبداً للحاكم الذي يملي عليه ما يقول!
وللسبب ذاته، خسرت العديد من تلاميذي وأحبابي؛ الذين وصل الحال ببعضهم إلى مقاطعتي وهجري!
ورغم حداثة السن آنذاك فقد كنت أرى غالب من يهمّون بالسفر؛ ممن لم يحصلوا على علم صحيح، ولا زالوا في غرارة صباهم لم يفلحوا في دراسة أو تجارة أو إدارة، وكنت أعلم أنهم يذهبون إلى هناك ليرافقوا السلاح، ويتدرّبوا على فنون الحرب والقوة البدنية والقتال، دون أن يخضعوا لتربية علمية ونفسية وأخلاقية توازي ذلك وترشده، وبهذا يسهل انزلاقهم إلى مسالك ومخاطر غير محمودة العقبى.
ولم يكن يخطر ببالي أن تكون المعسكرات التي تؤويهم وتستقبلهم في حالاتٍ كثيرة مدارس لتلقين التكفير واستحلال الدماء والأعراض..
والسلامة بفضل الله من هذا المسلك لا تعني تزكية هذا المحتوى الطويل الممتد المحفوظ في الكتب والأشرطة من المآخذ والعيوب والأخطاء؛ التي لا يسوغها عندي أن يكون كثير منها من وحي البيئة، وتلقين محاضن الدرس الأولى على يد الشيوخ، وبواسطة مقررات تعليمية يحفظها الطالب في مراحل تعليمه.
على مدى هذي السنين الطوال كنت أتحدَّث عن (أخطاء الناس)، وحين ينتقدني أحد على الملأ أجدني أرتبك وأتذمَّر، ويتبادر إلى ذهني السؤال عن هدفه من هذا النقد، وعن دافعه، وعن تصنيفه.. ليكون هذا سبباً كافياً في رد ما يقول.
ولكني لا أسيغ أن يتساءل أحد عن دافعي حين انتقد، وربما قلت له: ليكن دافعي ما يكون، المهم أن تتدبَّر ما أقول فلعل فيه بعض الصواب!
أتحدَّثُ عن التقوى، والفضائل، ومكارم الأخلاق.. فيظن السامع أنني تمثَّلت هذه القيم في نفسي وحياتي ويحسن الظن بي، ثم يصدم حين يجد عندي ما يخالف الصورة التي رسمها.
قد يسمعني شاب طرير أتحدّث عن فضل قيام الليل، فيظنني من أهل الأسحار، فيصلي الفجر معي فيجد أثر النوم في عيوني.
وحدث غير مرة وكنت أجلس للتدريس بعد الفجر أن يجتمع الطلبة في الحلقة ينتظرون (شيخهم)؛ الذي ذهب يصلى الفجر في مسجدٍ يؤخّر الصلاة، أو يرونه يقضي ما فاته من الصلاة خلف الصف!
لعل أمر الطالب القريب المصاحب أهون، ولكن الشأن في بعيدٍ عرفك بواسطة محاضرة أو درس فاغترّ بظاهر ستر الله عليك!
ولعله ظن أن الداعية من طينةٍ أخرى أو من برجٍ آخر لا يهش ولا يبش، ولا يبتسم إلا للضرورة القصوى، ولا يغضب، ولا يخضع للطبع والمزاج، ولا ينفعل..
ولم يخطر بباله أن يكون داعية صاحب نكتة أو دعابة وخفة ظل، أو حليف كآبةٍ وهمٍّ وغمٍّ وحزن، أو صاحب مزاج متقلِّب، أو مبتلى بذنبٍ خفي بينه وبين الله، أو أنه قد ورث في جيناته سفعة غضب، وحِدَّة طبع، وسرعة انفعال أخفق في تهذيبها وتشذيبها!
وربما اجتمعت فيه هذه الخلال كلها..
حتى سخَّر الله هذه الشبكات الاجتماعية على ما فيها إلا أنها جعلتنا نشاهد بعضنا دون تزييف أو تلوين، نشاهد الحياة بعفويتها وطبيعتها، وخيرها وشرها، وحلوها ومرها، وفرحها وحزنها، وعزائمها ورخصها، وقسوتها ولينها..
لقد تعلّمت منها الكثير، وكان من أهم ما تعلَّمت التخفف من الرسمية والتوقر الزائد، والتدرُّب التدريجي على الاعتراف بالخطأ، والبُعد عن المثاليات.
بدل الحديث عن أخطاء الناس ومطالبتهم بالتصويب، أدركت أن الأفضل لمقصِّر مثلي أن يتحدث عن تجربته هو، وخطئه هو، ليكون صادقاً مع نفسه ومع الآخرين، ولينزل من برجه العاجي ليصطدم كتفه بكتف غيره، وينأى بنفسه عن الإحساس بالفوقية، ثم يتشارك هو والآخرين في النهوض والتصويب والتصحيح ما أمكن، دون إملاءٍ أو وصاية..
شكراً (تويتر)، شكراً (فيس بوك)، شكراً (أنستقرام).
وشكر خاص لـ(سناب شات).
فقد تعلَّمت منكم ما لم أتعلمه من غيركم.