فيليب بولي غيركور
أطلقت السلطات الأمريكية منذ أسابيع سراح رئيس شركة “تورينغ” للأدوية، مارتن شكريلي، بكفالة قدرها خمسة ملايين دولار بعد شهر على اعتقاله من طرف مكتب التحقيقات الفدرالي في شهر ديسمبر 2015م بتهمة الاحتيال المالي.
يعدّ رجل الأعمال الأمريكي الذي يبلغ من العمر 32 عاماً الرجل الأكثر كراهية في الولايات المتحدة؛ بسبب رفعه لسعر دواء يستعمل في علاج داء المقوسات بنسبة 5000%؛ وهو ما أثار ضجة إعلامية كبيرة حول سلوك الملياردير الأمريكي بعد ارتفاع سعر الدواء من 13.5 إلى 750 دولاراً في شهر سبتمبر.
تشكلت في شهر فبراير لجنة خاصة داخل الكونجرس الأمريكي للتحقيق في قضية شكريلي التي أصبحت سريعاً قضية رأي عام بالنسبة للأمريكيين، وخلال جلسة استماع انعقدت في الكونجرس يوم 4 فبراير، رفض شكريلي الإجابة عن أسئلة المحققين، واكتفى بالرد قائلاً: بناء على نصيحة محامي بنجامين برفمان، أستخدم حقي في التعديل الخامس من الدستور بشأن عدم التجريم، وأرفض بكل احترام الإجابة عن السؤال.
تولى المحامي الفرنسي، بنجامين برفمان، الدفاع على مارتن شكريلي في قضيته التي أثارت جدلاً كبيراً بين الأمريكيين، ويعرف برفمان سابقاً بتوليه الدفاع عن المدير العام لصندوق النقد الدولي، دومينيك شتراوس كان، فيما يعرف بقضية فندق سوفيتيل بنيويورك، ومما لا شك فيه أن برفمان قد أوضح للملياردير الأمريكي أنه لن يكون في حاجة للإجابة عن أسئلة المحققين “البلهاء” على حد تعبير شكريلي في تغريدة نشرها على حسابه في “توتير”.
صنفت مجلة “ديلي بيست” الأمريكية في الشهر الماضي مارتن شكريلي الرجل الأكثر كراهية في الولايات المتحدة، ولا يبدو أن ذلك يشكل فارقاً كبيراً بالنسبة للملياردير الأمريكي الذي سأله أحد الصحفيين خلال مؤتمر صحفي: ما إذا كان يتمنى لو سارت الأمور بطريقة مختلفة؟ فأجاب: قد أفكر برفع السعر أكثر من ذلك، نحن مجتمع رأسمالي، يعيش في نظام رأسمالي، ووفق قوانين رأسمالية، إن شركائي ينتظرون مني دائماً أن أحقق أرباحاً إضافية كلما سنحت الفرصة لذلك.
ولد شكريلي في مدينة نيويورك عام 1983م، لأبوين مهاجرين من ألبانيا وكرواتيا، كان يتميز بذكاء حاد سمح له بالالتحاق بالنخبة في مدرسة “هانتر”، وتعلم في سن صغيرة كيفية التعامل مع أسواق الأسهم، خصوصاً أسهم الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا الحيوية، واشترى حصة من أسهم شركة “كومباك” عندما بلغ 12 عاماً، وفي 15 من عمره، اشترى أسهماً في شركة “أمازون”.
تميز شكريلي منذ ولادته بقصر قامته وضمور جسده، لذلك كان يعرف دائماً بـ”القزم” بين أقرانه، لكنه كان يحلم دائماً باقتحام عالم الاستثمارات والمضاربة على الأسهم في “وول ستريت”.
بدأت قصة شكريلي مع عالم المال والأعمال عندما غادر المدرسة الثانوية في سن السادسة عشرة، وانضمّ بعد ذلك إلى شركة الاستثمار “كرامر وبيركويتز”، وفي عام 2004م حصل على دبلوم في التجارة من كلية “باروتش” في نيويورك، وفي سنتين من تخرجه أنشأ شركة “إيلا كابيتال”، لكنه توقف عن التداول بعد ذلك بسنة، نتيجة الخسائر الكبيرة، وأضطر في عام 2007م لدفع مبلغ 2.3 مليون دولار لبنك “ليمان براذرز” مقابل خسائره التجارية، لكنه أعفي من دفع المبلغ بعد انهيار “بنك الاستثمار”.
وفي عام 2008م، أسس شكريلي شركة “إم إس إم بي كابيتال مانجمنت”، وبدأ في تأسيس شركات تعمل في مجال التكنولوجيا الحيوية بعدما أدرك بفضل فطنته وخبرته في سوق الأسهم أنها تجارة مربحة، لكنه اتهم بالاستخدام غير القانوني وسوء التصرف في إدارتها، بعدما سدد من خلالها ملايين الدولارات لحساب مستثمرين في شركة أخرى.
بعد ذلك بست سنوات، وتحديداً في عام 2015م، أسس شكريلي شركة “تورنينغ” المختصة في الأدوية، واستفاد الشاب الأمريكي من معاملاتها مع شركات أمريكية أخرى لا تخضع لرقابة الأسعار ليقوم بتطوير عمله وتكوين ثروة طائلة.
تخصصت شركة “تورنينغ” في الأمراض الخطرة التي لا تشمل سوى نسبة صغيرة من الأشخاص، لكنها تتميز بتحقيق هامش كبير من الأرباح بسبب الحاجة الملحة للمرضى لتعاطي هذا الدواء الذي يكون عادة محمياً ببراءة اختراع؛ ما يعني أن الشركة المصنعة لن تكون ملزمة بدفع مبالغ كبيرة للمالك الأصلي.
تعمل شركة تورنينغ على تصنيع عدد محدود من الأدوية، من بينها دواء “دارابريم”، ويستعمل هذا الدواء لعلاج داء المقوسات الذي لا يكتسي خطورة كبيرة إلا في الحالات التي يكون فيها الشخص مصاباً بإحدى أمراض نقص المناعة، مثل “الأيدز”، ولذلك اكتست قضية رفع سعر الدواء بُعداً أخلاقياً؛ بسبب الحاجة الملحة التي تدفع المرضى لطلب هذا الدواء، والتي عمل شكريلي على استغلالها بكل انتهازية لتحقيق أكبر حجم من الأرباح.
لم يقتصر نشاط شركة “تورنينغ” منذ تأسيسها على شراء الأدوية وإعادة توزيعها، بل عملت على احتكار هذه الأدوية حصرياً؛ بهدف التحكم في أسعارها بطريقة تسمح لها بفرض شروطها على الصيدليات ونقاط توزيع الأدوية بالجملة، كان شكريلي يسعى من خلال التحكم في نقاط البيع والتوزيع وترويج الأدوية بكمية محدودة إلى التضييق على الشركات المنافسة التي لن تتمكن بهذه الطريقة من الحصول على عينة كافية من الدواء تسمح لها بإعادة تصنيعه بصفة مستقلة عن شركة “تورنينغ”.
إحدى الرسائل الإلكترونية التي أرسلها الملياردير الأمريكي لشركائه في شركة “تورنينغ” كشفت سياسته غير الأخلاقية التي تهدف إلى استغلال حاجة المرضى الشديدة للدواء، وذكر شكريلي في هذه الرسالة أن “تساوي أرباحنا المتأتية من بيع 5 آلاف زجاجة دواء بالسعر الجديد 375 مليون دولار، وهو ما يعادل أرباح ثلاث سنوات قادمة إذا لم يكن أكثر، أعتقد أنه استثمار جيد بالنسبة لنا جميعاً”.
“تورنينغ” ليست أول شركة تقوم باستغلال حاجة المرضى الشديدة لدواء معين واحتكاره لتحقيق ثروة طائلة، فشركة “فاليانت” تورطت في قضية مماثلة تتعلق باحتكار أدوية قديمة يستعملها مرضى القلب، ومازالت هذه القضية أمام أنظار لجنة التحقيق نفسها التي تنظر في قضية شكريلي.
قامت شركة “فاليانت” برفع أسعار هذه الأدوية بنسبة 212% ثم 525% خلال فترة قصيرة، لكن القضية بالنسبة للملياردير الأمريكي تجاوزت مسألة احتكار الأدوية، بعد أن قام أحد الموظفين في شركة “تورنينغ” بتتبع شكريلي قضائياً عام 2014م بتهمة إهانته على مواقع التواصل الاجتماعي، وقرصنة بريده الإلكتروني الخاص، وهو أمر لا يستبعده الأشخاص المقربون من الملياردير الأمريكي الذي يميل سلوكه إلى التباهي والبذخ، فقد أنفق مليوني دولار لشراء آخر نسخة أصلية من الألبوم الأخير لفرقة “الهيب هوب”، و”وتانغ كلان”.
رغم فضيحة “دارابريم” التي أثارت جدلاً إعلامياً، فإن الملياردير الأمريكي أصر على مواصلة حياته بصفة طبيعية بعد أن أفرجت السلطات الأمريكية عنه بكفالة تبلغ خمسة ملايين دولار، فهو يعتبر أنه لم يفعل أي شيء مخالف للقانون، كما أكد أن اعتقاله لا علاقة له بفضيحة “دارابريم” بل بقضايا أخرى تتعلق بالفساد المالي والإداري.
إن قضية شكريلي ليست إلا مثالاً واقعياً يدل على فساد قطاع صناعة الأدوية في الولايات المتحدة الأمريكية الذي يسمح لشركات الأدوية باحتكار الأدوية وإنتاجها بكميات محدودة للضغط على المرضى الذين يكونون غالباً في حاجة ملحة لها، وهو ما تعمل هذه الشركات على استغلاله بكل الطرق الانتهازية وغير الأخلاقية لتحقيق الثراء غير المشروع من خلال المتاجرة بمعاناة الآخرين.
ساهمت قضية شكريلي الذي جعلت منه “الرجل الأكثر كراهية” في إثبات حقيقة واحدة؛ هي أن عديد الشركات الأمريكية، وتحديداً في قطاع الأدوية مازالت فوق القانون، وهي مستعدة أيضاً لانتهاك كل المواثيق الأخلاقية للمحافظة على امتيازاتها التي تمكنها من تحقيق ثروة طائلة من خلال استغلال حاجة المرضى للأدوية.
المصدر:
http://tempsreel.nouvelobs.com/monde/20160224.OBS5255/qui-est-martin-shkreli-l-homme-que-tout-le-monde-deteste.html