في عهد البكباشي الأرحل كان المعتقل يضم أعداداً كبيرة من المثقفين والسياسيين في طليعتهم الإخوان والشيوعيون، لم يكونوا بمثل العدد الضخم الآن الذي يتزايد مع فجر كل يوم حتى جاوز ستين ألفاً من العلماء والمعلمين والتكنوقراط والطلاب وسواهم.
كان التعذيب هو السمة السائدة، وهو الوحشية التي تنافس فيها قادة عسكريون: شمس بدران، وحمزة البسيوني، وصفوت الروبي وغيرهم..
ذات يوم فوجئ المعتقلون بباب الزنزانة يفتح، ويتقدم جلاد ليسأل: من أكبركم علماً؟ ظن المعتقلون أن السؤال مقدمة لعملية تفاوض من أجل تحسين أوضاعهم أو الإفراج عنهم أو أمر يفيدهم بصفة عامة، فقالوا للجلاد: أكبرنا علماً د. لويس عوض! فأمره الجلاد أن ينهض سريعاً لتنظيف دورة المياه!
لويس مهما كان رأينا في فكره يحمل درجة الدكتوراه، وكان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة، كما كان يكتب في الصحف ويؤلف الكتب، ويمثل نوعاً من صفوة البلد، ولكن الحكم العسكري لا يعترف بالعلم ولا العلماء، بل يعدّ المعرفة خطراً داهماً عليه، ولا يبالي بسحقهم وإذلالهم؛ لذا لم يتخذ مثلاً خطوة ملموسة على مدى ستين عاماً أو يزيد في محو الأمية، مع تضخم الجهاز القومي لمحو الأمية بالموظفين والعاملين والمستشارين والميزانيات، في الوقت نفسه فإن دولاً شرقية وغربية قضت على هذه الآفة في زمن قصير، وتفرغت لما بعدها.
النظام العسكري حقق إنجازاً رهيباً في اضمحلال مستوى التعليم بمصر، فقد أطاح بالأزهر بالقانون (103 لسنة 1961)، وحوّله إلى كائن مهيض الجناح لا يستطيع طلابه أن ينهضوا بالعلوم الشرعية والعربية، ولا يستوعبوا العلوم التطبيقية والرياضية، وسلّط عليه أشباه المثقفين والمأجورين لمهاجمته وإهانته ومطالبته بتغيير الإسلام تحت مسمى تغيير الخطاب الديني ليرضى أعداء الإسلام عن الحكام.
أما التعليم العام والجامعي، فحدث ولا حرج.. يكفي أن طلاب الثانوية العامة لا يعرفون الطريق إلى مدارسهم، وطلاب الجامعات في أغلبهم مسطحون فارغون لا يعبؤون بعلم ولا مستقبل! ويرون أن أمين الشرطة شبه الأمي أفضل حالاً من خريج كلية الطب والصيدلة والهندسة والسياسة والاقتصاد والإعلام الذي نجح في الثانوية العامة بمجموع يكاد يقترب مائة في المائة.. بل إن أمين الشرطة يتفوق على أساتذتهم في العائد والدخل والمرتب والسطوة!
اليوم يقال لنا: إن زيارة قائد الانقلاب إلى اليابان وكوريا من أجل نقل خبرتهم في مجال التعليم والمعرفة.. وهو كلام لا نظن أنه جاد أو يمكن أن يتحقق في ظل النظام العسكري الدموي الفاشي الذي لا يعنيه أمر المصريين من قريب أو بعيد، ولا تهمه حياة المصري بوصفه كائناً حيّاً له كرامته وحرمة وجود، ويمكن ببساطة تصفيته واتهامه بتهم ملفقة تسوّغ قتله وتشييعه إلى العالم الآخر.
يعلم القاصي والداني أن اليابان وكوريا كانتا تنظران إلى مصر في منتصف القرن العشرين نظرة انبهار بمستواها الحضاري والعلمي، وكانت الوفود تأتي منهما لتنقل الخبرة أو التجربة المصرية، ولكن الحال اليوم تبدّلت وتغيّرت، بعد أن صرنا في الحضيض على مستوى العالم.
لقد تم ضرب اليابان في الحرب العالمية الثانية وهزيمتها هزيمة ساحقة بعد هيروشيما ونجازاكي، ولكن اليابان نهضت بعد عشرين عاماً، وبدأت تفرض النصر العلمي والتكنولوجي والاقتصادي على من أذلوها، وصار المنتصرون عليها يرجونها لتخفيض قيمة الين الياباني من أجل استمرار حركة الاقتصاد بصورة مرضية في بلادهم!
القوم في اليابان وكوريا صنعوا نهضتهم من خلال منهج بسيط وسهل وغير مكلف، وهو التشاور الوطني، أي التفاهم بين فرقاء الوطن وفقاً لأسس يتفقون عليها، أو ما يطلق عليه الديمقراطية دون أن يسطو فريق على الحكم بقوة الذراع أو النبوت، وبعد ذلك اتفقوا على ترسيخ هويتهم القومية من خلال التعليم، وهو العنصر الذي لا يحبه الأشاوس والنشامى من حكامنا في مصر والعالم العربي.
لقد وجد أهل اليابان أنهم لن ينهضوا إلا من خلال التعليم والمعرفة بطريقة جادة وحازمة ومنضبطة، ورأوا أن العنصر الأساسي هو المعلم، فقاموا بعملية فرز دقيق للمعلمين الموجودين على رأس العمل، فاختاروا أصحاب الكفاءة، ونحّوا السادة التنابلة وأشباههم، وأعطوا للمعلم مرتب الوزير وسلطة النائب العام، سوف يسخر كتاب البيادة ويضحكون ملء أشداقهم، ويتساءلون: كيف يمنح المعلم مرتب الوزير وسلطة النائب العام؟ وأقول لهم: هذا هو ما حدث بالفعل، وكان عائده تعليماً رائعاً فائقاً جعل رئيساً أمريكياً اسمه رونالد ريجان يأسى على مستوى التعليم في بلاده مقارنة باليابان ويعلن: نحن أمة في خطر، في تقرير شغل أمريكا زمناً طويلاً!
اتخذ المجلس القومي للتعليم قراراً خطيراً يؤكد اعتزازه بالهوية اليابانية بجعل مقرر اللغة يزيد في المرحلة الثانوية إلى الضعف، يعلم القراء أن اللغة هناك تتكون من مفردات على هيئة صور، وكان طالب الثانوي يحفظ نحو ألفي وخمسمائة مفردة أو صورة، وبعد الهزيمة رأي بعض أعضاء المجلس القومي للتعليم أن يخففوا عن الطلاب عدد المفردات الصور، ولكن الأغلبية رأت زيادة العدد إلى الضعف – أي خمسة آلاف مفردة /صورة، من يحسن اللغة العربية من حكامنا؟
المعلم الكفء الذي يتقاضى مرتب الوزير أتاحت له سلطة النائب العام أن يحول أي منحرف خلقياً أو إدارياً أو مالياً في دائرة التعليم إلى القضاء، وانتظم مسار التعليم في اليابان وحقق المعجزات على المستويات كافة، فهل لدى أنظمتنا العربية استعداد للقبول بالتجربة اليابانية، أو إننا مولعون بالتجربة الدنمركية لصاحبها عادل إمام؟
أنقل لكم ما قاله د. عبدالمنعم تليمة، أستاذ النقد الأدبي بجامعة القاهرة؛ الذي سافر إلى اليابان وعمل ببعض جامعاتها، يقول: “كنت أعمل أستاذاً للغة العربية وآدابها في اليابان خلال الثمانينيات من القرن الماضي، وحصلت على راتب أعلى من راتب رئيس الوزراء الياباني، فخفت أن يكون هناك خطأ وأن يطالبوني برد هذه المبالغ بعد ذلك، فعاودت الاتصال بمسؤول الماليات بالجامعة لأطمئن، فأخبرني أن قانون الرواتب في اليابان موحد على الجميع، وأن درجتي العلمية أعلى من درجة رئيس الوزراء الذي معه دكتوراه فقط، وأن سنوات خبرتي أكثر من سنوات خبرته، إضافة إلى نسبة تميز مهن التعليم، لذا أستحق راتباً أعلى من راتب رئيس الوزراء بالقانون.
هل يمكن أن نرى نظاماً يعطي المعلم في التعليم العام والجامعي في بلادنا العربية ما يعطيه نظام التعليم في اليابان؟ لا أظن، فالقوم عندنا لا يعترفون إلا بالعصا الغليظة لتطوير شعوبهم ونقلهم إلى حضارة العصر الحجري، ويكفي أن ميزانية بناء السجون والإنفاق عليها تفوق ميزانية بناء المدارس والجامعات!
الله مولانا، اللهم فرّج كرْب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!