عاش المصريون طوال القرن الماضي وقد تواضعوا على أن النيل خط أحمر، لأنه شريان الحياة للإنسان والحيوان والزرع، وأي اعتداء على المياه أو الانتقاص منها يعني إعلان حرب على الشعب المصري، ويفرض عليه الدفاع عن النفس، وبذل الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على شريان الحياة.
ما تفعله إثيوبيا ودولٌ في حوض النيل من بناء لسد النهضة وسدود أخرى، يهدد حياة المصريين وحيواناتهم وزراعاتهم، ويحوّل مصر بعد سبعة آلاف سنة إلى صحراء جرداء قاحلة، بعد أن كان العالم يحسدها على جريان النيل في أرضها، ويعدّه ثروة أغلى من النفط والذهب.
لا شك أن الحكم العسكري الذي بدأ في عام 1952م مهّد للكارثة المنتظرة، وأسهم في تجرّؤ الآخرين علينا، فقد تخلى البكباشي الأرحل عن السودان وأجزاء من أوغندة وإريتريا (ما يعادل مليوني كم مربع؛ ضعف المساحة الحالية لمصر تقريباً)، ليجلس على كرسي مملكة مصر والسودان، ولم يعبأ بالمضاعفات التي ترتبت على ذلك من تقسيم السودان، واشتعال الحرب الضروس بين أبنائه، وفقدان السيطرة على النيل، وإغلاق الطريق العربي الإسلامي إلى قلب القارة السمراء.
ثم كان بناء السد العالي بطريقة عشوائية تجعل أعداء مصر والإسلام قادرين على إغراق البلاد والعباد لو تمكنوا من ضربه، بدلاً من بناء سدود متعددة على امتداد النهر، تنتج مزيداً من الكهرباء، وتحافظ على الطمي الذي يزود الأرض الزراعية بالمناعة ويسمدها تسميداً طبيعياً، ولكن “الذكاء العسكري للبكباشي” جعله ينجز بالانفعال المشروع الضخم دون أن يُصغي للآراء المتعددة أو يمنح الخبراء فرصة التداول الهندسي (السدّ يخلو من هويس واحد يمرّر المياه الزائدة المخلوطة بالطمي ويفتح مجال الحركة للسفن من الجنوب إلى الشمال أو العكس)، وصارت المياه الزائدة تلقى في مفيض توشكي الذي يشفطها ويصنع منها القذافي نهره العظيم (توقفت فكرة النهر العظيم بعد قتل الطاغية).
وجاءت عصور العسكر المتتابعة لتهمل النيل وترضى بتسميمه وردمه والبناء على طرحه وتحويله إلى بحيرة آسنة تمتلئ بالصرف الصحي للجزر والعوامات والمصانع ومباني طرح النهر، وتتوقف فيه حركة الملاحة النهرية الآمنة التي كانت مزدهرة قبل عام 1967م وتنقل البضائع من وادي حلفا حتى الإسكندرية ودمياط، ثم كان التراخي المشين في متابعة ما يدبره المجرمون الدوليون من خلال دول حوض النهر بمحاولات تغيير الاتفاقيات الدولية، وإقامة السدود، ومنع الإفادة من قناة جونجلي!
وبناء على عشق سياسة الأمر الواقع التي يدمنها النظام العسكري الحاكم منذ ستين عاماً أو يزيد، تم توقيع ما يسمى الاتفاق الثلاثي بين رئيس وزراء إثيوبيا وحاكم السودان وقائد الانقلاب المصري، لقبول سد النهضة بوصفه أمراً واقعاً، لا سبيل لتغييره أو التمرد عليه، مع أنه يعني ببساطة شديدة تعطيش مصر إنساناً وحيواناً ونباتاً والتحكم في حياة الملايين المصريين والسودانيين.
الشعب المصري المقموع لا يملك غير التنكيت، مثل الذهاب إلى أديس أبابا للاستحمام أو تقديم طلب لاستيراد “قُلة” للشرب مملوءة بالماء من إثيوبيا وغير ذلك مما لا يضحك.
النظام الانقلابي لا يقدم إجابة على تساؤلات المصريين المعلنة أو المكتومة، كل ما يقدمه نوع من الاستخفاف بالشعب، واستهانة بإدراكه، وتشجيع ضمني للأخ الإثيوبي كي يواصل عدوانه وحربه على المصريين التعساء، واقرأ:
– قائد الانقلاب يقول: “أنا قلقان مع الشباب بسبب الفقر المائي.. وإللي عاوز الحل يجيلي وأنا أقوله”، بخصوص سد النهضة، سيتم الاتفاق على حجز المياه مع إثيوبيا لعدة سنوات”، ثم متسائلاً: “طب المية دي هعوضها منين، هسيب الفلاحين من غير مياه، واللي عايز يفهم يجيلي وأنا أقوله الحكاية إيه”، “حجم المياه التي تتم معالجتها حوالي 10.5 مليون متر مكعب..”.
– وزير الري المبجل يحكي لنا عما يسمى مبادرة حوض النيل بهدف توفير الدعم الفني والمالي والمؤسسي لدول حوض النيل من خلال برنامج الرؤية المشتركة، كما انطوت المبادرة علي برنامج مشروعات الأحواض الفرعية.. ثم يردف بالحديث عن نزهته على شواطئ بحيرة فيكتوريا، ومدينة كسومو الصغيرة والجميلة، التي تذكره بمدينة الإسكندرية في ستينيات القرن الماضي، ومشاركته في الاحتفال بيوم النيل في كينيا الموافق 22 فبراير من كل عام، ويشير معاليه إلى وجوب وجود حلول للتحفظات المصرية علي الاتفاقية الإطارية للنيل بشكلها الحالي!
– لم يحدثنا معاليه عن محنة سد النهضة التي وصفتها صحيفة “واشنطن تايمز” الأمريكية بأنها تحُول دون إعطاء مصر حصتها المنصوص عليها في اتفاقية موقعة بين دول حوض النيل والتي تقدر بـ 55.5 مليار متر مكعب من الماء، وأن مصر تواجه تهديداً حقيقياً بسبب عدد سكانها الضخم وتعرضها لمشكلة وجودية تتمثل في إمكانية انقطاع المياه عن نيلها؛ مما سيؤدي إلى زيادة مطردة في واردات الأغذية، وتضطر مصر إلى اقتراض الأموال لشراء 32% من احتياجات السكر، و60% من الذرة الأصفر، و70% من القمح، و70% من الفول، و97% من زيوت الطعام، و100% من العدس، معاليه يتفاوض اليوم على زيادة عدد فتحات المياه في سد النهضة، ولكن الطرف الآخر يرفض بوقاحة سافلة!
– سفير إثيوبيا في القاهرة محمود درير ينفي ما تردد بأن قائد الانقلاب تناول مع رئيس الوزراء الإثيوبي والرئيس السوداني أزمة سد النهضة على هامش المنتدى الأفريقي بشرم الشيخ.
– قال وزير المياه الإثيوبي موتوا باسادا: إن بلاده لن تتوقف عن بناء سد النهضة ولو للحظة، وأنها ستواصل العمل فيه خلال فترة إجراء الدراسات الفنية والمقدرة بنحو عام، وأضاف باسادا، خلال مقابلة مع «بيبيسي»، أن إثيوبيا ستعمل على افتتاح السد رسمياً في موعده المحدد في العام 2017م، مشيراً إلى أنه لا يوجد سبب لتأجيل افتتاح السد.
النظام الانقلابي يعلن استسلامه الكامل لإثيوبيا، ويبشرنا بمعالجة مياه الصرف الصحي (؟!) لنشربها ونزرع بها، أي قتل الشعب المصري ببطء، ويتطوع بعضهم بالحديث عن تحلية ماء البحر، و”اللي مش عاجبه من المصريين يخبط دماغه في الحيط!”، مصر هبة النيل تتحول إلى مصر هبة الصرف الصحي في عهد العسكر!
الله مولانا، اللهم فرّج كرب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!