في 27 مايو 1979م نشر الكاتب الكردي آزاد عبدالحميد مقالة في مجلة “التربية الإسلامية” البغدادية في عددها الثاني عشر، السنة الحادية عشرة بعنوان “عيد نوروز.. بدعة محدثة”، وقد تصدى له الكاتب إبراهيم باجلان بمقال نشر في جريدة “العراق” في عددها (1022) في 9/ 7/ 1979م موسوماً بـ”نوروز بين الحقائق والأباطيل”، مبيناً أن السيد آزاد: قد طرح جملة آراء وأفكار بعيدة عن روح نوروز وجوهره، فبدءاً من العنوان الذي يجرح مشاعر أبناء شعبنا الكُردي، ينبغي أن نعلم بأن مثل هذه الآراء تعطي مردوداً عكسياً، حيث يعتبر نوروز مفخرة من مفاخره القومية ومأثرة تاريخية في وجه الظلم والطغيان.
وقد أوضح إبراهيم باجلان بأن النوروز عيداً قومياً ولا يتعارض مع أعيادنا الوطنية والدينية، بل يلتقي مع المبادئ الخيرة في معاداة الشر والظلم ومناصرة المظلومين، بعكس ما نشرته الرجعية الكردية (الإسلاميون وعلماء الدين الإسلامي العاملون تحديداً) من أراجيف باطلة ومزاعم مغرضة، مدعية بأن عيد نوروز يمثل طقوساً مجوسية قديمة؛ لأن الكُرد يوقدون النيران في احتفالاتهم.
وكان من أبرز المنتقدين د. حسين قاسم العزيز، وهو أكاديمي كردي شيعي ذو ميول ماركسية، أخذ شهادة الدكتوراه من جامعة موسكو، وحاول تدبيج مقالة أو بالأحرى بحث حول تاريخ النوروز عند الكرد، ونشره في مجلة “المجمع العلمي العراقي” التي كانت تصدر في بغداد عام 1980م.
ومن جانب آخر، فقد نشر كتَّاب كرد آخرون ردوداً أخرى على الأستاذ آزاد عبدالحميد، وهم أيضاً محسوبون على الاتجاه اليساري الذي كان سوقها رائجة في حقبة السبعينيات من القرن العشرين وما زال؛ غير أنهم تحولوا من الاتجاه اليساري والماركسي إلى الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية، بعد نفوق تجارة الماركسية في الاتحاد السوفييتي السابق.
وكلمة النوروز التي تعني في اللغتين الفارسية والكردية اليوم الجديد، وهي مركبة من لفظين؛ أولهما “نِي” بكسر النون؛ أي الجديد، وثانيهما “روز”؛ أي اليوم، إذن فكلمة النيروز في اللغتين الفارسية والكردية تأتي بمعنى “اليوم الجديد”.
وأما اصطلاحاً فهي عيد رأس السنة الفارسية (الإيرانية) الذي يقع في اليوم الأول من شهر فروردين (31 يوماً من 21 مارس – 20 أبريل)، وذلك عندما تكون الشمس في برج الحمل، وهو البرج الأول من البروج الاثني عشر في الفلك، حيث يتساوى الليل والنهار، وفي تلك الأيام تهب رياح الدبور أو الغرب، وفروردين في اللغة البهلوية هو فرفرتن FARVARTIN، وهي كلمة مأخوذة من الفارسية القديمة فرفرتينام FRVARTINAM، وهي على ما يبدو جمع مؤنث لكلمة فرفرتي FARVARTI في حالة الإضافة، وجمعها بمعنى الآلهة المطهرين.
وفروردين أيضاً اسم ملاك من خزنة الجنة، ويختص بتدبير الأمور والمصالح التي تقع في هذا الشهر، كان الفرس يحتفلون ويعيدون بناء على القاعدة السائدة عندهم، وهي أنه من الواجب الاحتفال بكل يوم يحمل نفس اسم الشهر الذي يقع فيه، ومن الأمور الطيبة في هذا اليوم في اعتقادهم ارتداء الملابس الجديدة وزيارة قطعان الماشية والخيول.
وفروردين اسم قسم من كتاب زرادشت الديني المسمى بالأفستا (آوستا)، ويسمى “فروردين يشت”.
وهذا التقويم هو ما يعرف بالتقويم الجلالي؛ نسبة إلى جلال الدين ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي الذي اتخذه عام 472هـ/ 1079م، والفرق بينه وبين التقويم الفارسي القديم المعروف بتقويم يزدجرد (آخر ملك فارسي ساساني) أن أيام النسيء في التقويم الأخير تلحق بشهر”أبان” وهو الشهر الثامن من السنة الشمسية، وتكون فيه الشمس في برج العقرب (30 يوماً من 23 أكتوبر – 21 نوفمبر، ويقال له أيضاً: أبانماه)، وهو الشهر الثاني من شهور الخريف، واسم ملاك موكل بالماء وتدبير الأمور والمصالح في شهر أبان ويوم أبان.
ومهما يكن من أمر، فقد كان للدين المجوسي الزرادشتي تأثير على مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للإيرانيين القدماء، فأعيادهم (الكونهبارات) كان الباعث على اتخاذها في أغلب الأحوال دينياً؛ فإن لم يكن الأمر كذلك كانت الطقوس الدينية هي المظهر الغالب على هذه الأعياد، وقد استمرت المهرجانات بعيد النيروز تقام في إيران منذ بداية العصر العباسي الثاني، حيث كان التأثير الفارسي واضحاً في صبغ مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية، واستمرت بوتيرة متصاعدة في العصور الصفوية والأفشارية والزندية والقاجارية وإلى التاريخ المعاصر، حيث بلغت ذروتها في أيام الشاه رضا بهلوي (1925 – 1941م)، ونجله الشاه محمد رضا بهلوي (1941 -1979م)، بتأثير ودعم المثقفين العنصريين الفرس الذين كانوا يحاولون إحياء الأعياد المجوسية (الزرادشتية)، وبعث التاريخ الإيراني القديم قبل الإسلام (الدولة الأخمينية والدولة الساسانية)، حيث تقرر منح العطلة الرسمية أسبوعاً كاملاً للدوائر الحكومية، إضافة إلى أسبوعين للمدارس والجامعات؛ بعكس عطلتي عيد الفطر والأضحى حيث خصص لكل منهما يوم واحد فقط، واستمرت الوتيرة في عهد الجمهورية الإسلامية الإيرانية على نفس السياق.
ويعد الشاعر الكردي العراقي بيره ميرد (1867 – 1950م) من أهالي مدينة السليمانية شرق كردستان العراق، والقادم من مدينة إسطنبول التي قضى فيه حوالي ربع قرن من عمره، أول المساهمين في هذا التغيير، فضلاً عن إلمامه بهذه المناسبة سابقاً أثناء دراسته في أحد الكتاتيب عند الملا حسين طوجة في السليمانية، كان الأخير يطلب قبل حلول اليوم الأول من الربيع من طلبته إحضار عيدية نوروز، فكنا (بيره ميرد) نتوسل من أمهاتنا وآبائنا أن يلبوا مطلبنا، بعد أن كانوا يدخلون الفرح إلى قلوبنا نأخذ معنا ما كنا قد حصلنا عليه لنسلمه إلى الملا (الشيخ) الذي كان يأخذ من الحصيلة نصيبه، ثم يصحبنا إلى جامع الشيخ عبدالرحمن الشيخ أبو بكر الذي كان معروفاً بجمال خطه، فكان يكتب لنا “نوروز نامه – رسالة نوروز”، ونبدأ بقراءته وحفظه، ثم يعطي الملا أمره بتعطيل الدراسة بمناسبة نوروز حيث نقضي نهارنا خارج المدينة بالألعاب الشعبية، ونعود قبيل الغروب لنغني “نوروزنامه”، ونحن نتجول في أزقة المدينة، هذا ما حصل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في مدينة السليمانية.
ومع هذا، فإن ظاهرة المد القومي التي اجتاحت المنطقة في بداية القرن العشرين حملت بعض القوميين الكرد على إضفاء طابع قومي وسياسي على عيد النيروز، وجعله عيداً قومياً للشعب الكردي، باعتباره أحد شعوب المنظومة الآرية ابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين، خصوصاً بعد أن تولى الشاه رضا بهلوي مقاليد الحكم في إيران اعتباراً من عام 1925م، حيث حاول بعث العنصر الآري من جديد في الهضبة الإيرانية، بعد أن تولى الترك (الصفويون والافشاريون والقاجاريون) مقاليد الحكم لقرون عديدة في إيران ابتداءً من عام 1502 حتى 1925م؛ لذلك تم الطلب من القنصلية الإيرانية في مدينة السليمانية (شرق كردستان العراق على مقربة من الحدود الإيرانية) بإحياء هذه الطقوس في نفوس الشعب الكردي باعتباره جزءاً من المنظومة الآرية (الهندو إيرانية)، عن طريق الدعم المادي المتمثل في الملابس الكردية وغيرها من مستلزمات الاحتفال، والمعنوي عن طريق نشر الكتب والمنشورات التي تمجد هذه المناسبة، خاصة بعد ظهور بعض المجلات الصادرة باللغة الكردية في محافظة السليمانية، أمثال: كلافيز، وزين، وغيرهما.
لذلك بدأ الشاعر بيره ميرد يحتفل في بداية عقد الثلاثينيات من القرن العشرين من كل عام في عصر اليوم الذي يسبق النيروز (20 مارس) على تلة “مامه ياره” قرب مدينة السليمانية بإشعال النار وإعطائها بُعداً قومياً.
وهكذا أصبح اسم بيره ميرد مقترناً بنوروز، إذ اعتاد على إقامة ذلك الاحتفال سنوياً حتى مماته؛ إلا في السنوات التي كانت السلطات الملكية تمنع إقامة احتفال نوروز، فقد كان هناك متصرفون (محافظون) يعتبرون إقامة حفل نوروز تظاهرة ضد السلطة أو يتهمون القائمين به بإحياء المجوسية وغيرها من الاتهامات، وغالبية هؤلاء من العرب والتركمان، وقد برز في هذا المجال الحاج رمضان باشا الموصلي، ومجيد يعقوب الكركوكي، فيما كان هناك متصرفون آخرون غالبيتهم من الكُرد يشجعون الشاعر على إقامة الاحتفالات ويدعمونه مادياً أيضاً منهم: صالح زكي صاحبقران، بهاء الدين نوري، معروف جياووك، الشيخ مصطفى القره داغي، وآخرون.
ولأول مرة في عام 1946م بادر طلبة ثانوية السليمانية بدعم الحزبين الديمقراطي الكردي (الكردستاني)، والشيوعي العراقي لإقامة حفل خطابي في قاعة المدرسة حضره كبار الشعراء الكرد، منهم: بيره ميرد، فائق بيكه س، هاوري، شيخ سلام وآخرون، قرؤوا كلمات وقصائد نثراً وشعراً في الحفل، وفي الليل طاف الطلبة في شوارع المدينة يحملون المشاعل المضيئة ويهتفون بحياة الكرد وكردستان، وكان مدير الثانوية وديع فتح الله ميرزا يصاحب الطلبة حتى لا يصيبهم الأذى من قبل السلطات المحلية.
وفي السنوات التي كانت الأنظمة المتعاقبة تمنع إقامة حفل نوروز كان الشباب يكتبون بالنار على صدر جبل “كويزة” المطل على مدينة السليمانية من الشمال “نوروز”، و”عاشت كردستان”.
في بداية قيام الحركة الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني في شهر سبتمبر ضد الحكومة العراقية، بدأ أكراد منطقة بهدينان شمال مدينة الموصل بإشعال النيران فوق قمم الجبال العالية؛ تيمناً بمناسبة نوروز اعتباراً من عام 1962م.
وعندما كان القتال يتوقف وتبدأ المفوضات بين الجانبين الحكومي العراقي والكردي، كانت قيادة الحركة الكردية تطلب من الحكومة العراقية الاعتراف بالنيروز (النوروز) كعيد قومي للشعب الكردي، وهذا ما حصل فعلاً في اتفاقية 11مارس 1970م.
ولكن بعد انتفاضة مارس 1991م التي قام بها الشيعة والأكراد، وصلت عطلة النوروز إلى أربعة أيام كعطلة رسمية للنوروز في حكومة إقليم كردستان العراق للأيام (20 و21 و22 و 23 مارس) من كل سنة، وحوالي أسبوعين لطلاب الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية والابتدائية؛ وكانت الحجة هي قول النخبة الكردية: إذا كانت إيران تدعي الإسلام واسمها “جمهورية إيران الإسلامية!”، وتحتفل بالنيروز، وعطلتها أطول من عطلتنا، ونحن أصحاب اتجاه قومي علماني؛ فلماذا لا نزيد من عطلتنا كي تضاهي عدد أيام العطلة في إيران الإسلامية، ونحن مثلهم أمة تنتمي إلى الأمة الآرية – الهندو الايرانية؟