جاء الإسلام الحنيف ليربي الإنسان جسداً وروحاً خلقاً وعملاً، تصوراً وتطبيقاً، فشملت تعاليمه السمحة مجالات الحياة في كل نواحيها المتباينة وجوانبها المتعددة، وكما علمنا شيوخنا: “إن هذا الدين امتد طولاً حتى شمل آباد الزمن، وامتد عرضاً حتى انتظم آفاق الأمم، وامتد عمقاً حتى شمل أمور الدنيا والآخرة”.
ومن الجوانب التي عُني بها الإسلام وحرص على تربية الإنسان – مطلق إنسان – عليها مسألة “الذوق العام”؛ تلك القضية التي قد يستهين بها بعض الناس مع عظم أمرها وخطورة الغفلة عنها.
لقد سعى القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة إلى غرس قيم الأذواق العالية في نفوس الناس جميع الناس غير مفرق بين عامي بسيط وعالم كبير؛ فالإنسان هو الإنسان مهما تغير موقعه أو تبدل موقفه.
وفرق الإسلام بين فقه الأذواق التي يتعامل الناس بها والتي دعاهم إلى أن يتربوا عليها، وبين فقه الأوراق؛ فكم رأينا من أصحاب أوراق وعلم لا ترقى أذواقهم إلى ما يفهمه ويراعيه رجل الشارع البسيط الذي لم يدخل الجامعة ولم يجلس إلى شيخ.
وتنوعت منهجيات القرآن الكريم ومجالات دعوته للناس إلى الأخذ بالأذواق العالية والتعاملات الراقية، فشملت مجالات متعددة، منها:
1- في الصوت؛ حيث دعا إلى خفض الصوت وعدم رفعه أعلى من حاجة المخاطب فقال تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {18} وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ {19}) (لقمان)، وفي الآية الكريمة دعوة صريحة إلى عدم الكبر والقصد في المشي وغض الصوت وخفضه وتشبيه غليظ الصوت دون حاجة بصوت منكر تأباه النفوس السوية، وترفضه الفطر السليمة.
وهنا يقول الأستاذ حسن البنا: “لا ترفع صوتك فوق ما يحتاجه السامع فإنه رعونة وإيذاء”.
2- كما دعا القرآن الكريم إلى مراعاة الذوق والشعور بالغير في المجلس والتفسح له فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {11) (المجادلة).
قال صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا اله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق” (رواه البخاري ومسلم).
3- كما دعا القرآن الكريم إلى عدم الدخول على الغير دون استئناس، وهو أعلى من الاستئذان، وهو طلب الوقت الذي فيه أنس لأصحاب البيت المزورين فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {27}) (النور).
وفي اختيار مكان الجلوس عند المضيف يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “ولا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه” (صحيح مسلم 1/ 465).
وتبدو منهجيات القرآن الكريم في غرس قيمة الأذواق في الناس من تناوله لأدق المشاعر الإنسانية وأخص الحالات البشرية بصورة لا تجرح الشعور، ولا ينبو منها الذوق السليم كتعبيره عن الحالة الخاصة بين الرجل والمرأة باللمس في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً {43}) (النساء).
فعبر عن الحاجة البشرية بالمجيء من الغائط، وعبر عن العلاقة بين الرجل والمرأة باللمس، كما عبر عن بشرية عيسى عليه السلام بصورة رائقة فائقة فقال: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {75}) (المائدة).
فعبر بأكل الطعام عما يترتب عليه، وفي ذلك من بناء الذوق الراقي ما فيه.
الأعراف الدعوية
وقد تربينا على أعراف دعوية هي امتداد لهذا البناء المنهجي الكريم، منها وترسيخ لقيم لا تهنأ البشرية إلا بها ولا تقوم مؤسسة إلا عليها، منها:
1- تقدير الرابطة التي تجمعنا وحمايتها والحرص عليها.
2- السمع والطاعة في العسر واليسر المنشط و المكره.
3- ضوابط المحاسبة – المتابعة – التعزير – التقويم.
4- ضوابط الاتصال الصاعد والنازل وعدم التخطي.
5- ضوابط الشكوى من القيادة وكيفية التعامل معها.
6- ضوابط وآداب النصيحة عند وجود خلل سلوكي في بعض الأفراد.
7- نظرة القيادة للأفراد نظرة الأب للأبناء والشيخ للمريد والقائد للجندي والأستاذ للتلميذ.
8- ضوابط الكتمان وعدم إفشاء الأسرار ومعرفة ما يقال وما لا يقال.
9- ضوابط الشورى والمشورة والاستشارة.
10- ضوابط الاجتهاد الذاتي في الحركة ومساحته في إطار الالتزام والانضباط.
11- الضوابط الشرعية العامة في الحركة مثل: الأصول مقدمة على الفروع – دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة –كدر الجماعة خير من صفو الفرد – احتمال أخف الضررين مع فهم وإدراك فقه تحديد الأولويات في الحركة.
12- عدم الثرثرة أو الاهتمام بما لا يعنيه “فالمعرفة على قدر الحاجة”.
13- ضوابط تولى المسؤولية وعدم التأثر عند التقدم أو التأخر.
ألا هلا رجعنا إلى أعرافنا الدعوية التي ربت أجيالاً هم مثال للثبات والشموخ، أعادوا للبشرية صورة الجيل الفريد الذي لم يلِن ولم يهن ولم يعط الدنية في دينه ولا في وطنه ولا في شرعيته؟!
كذلك أخرج الإسلام قومي شباباً مخلصاً حراً أمينا
فهاتوا لي من الإخلاص نوراً وقووا بين جنبي اليقينا
أمد يدي فأقتلع الرواسي وأبني المجد مؤتلقاً مكينا
(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بجامعة الأزهر.