في عام 2009م صدر كتاب حمل عنوان “على درب الحقيقة.. دليل أريج للصحافة العربية الاستقصائية” والذي قام على إعداده كوكبة من الصحفيين والمتخصصين بإشراف د. مارك هنتر، وبمشاركة كلاً من يسري فودة، بيا ثوردسن، رنا الصباغ، نيلر هانسون، لوك سنغرز، فلمنغ سغيث، يحيى شقير، محمد قطيشات، وهو الكتاب الذي جاء في 225 صفحة.
طرح الكتاب قضية ليست بالجديدة في حينها، لكن كانت انطلاقة نحو أفق أوسع لمفهوم القضية، وهي البيانات والأرقام في العمل الصحفي وربما في حينها كان الإنترنت نافذة متاحة للكثيرين، وأصبحت فكرة سيولة المعلومة متوافرة وبقوة، لكن لم يكن المفهوم ذا قوة واهتمام كما هو الآن فلماذا؟
بداية ظلت كلمة البيانات وتحليلها منحصرة في المفهوم العلمي التطبيقي، أي في تلك المجالات المتعلقة بالرياضيات والعلوم الفيزيائية وأمثالها بجانب الاقتصاد وأدواته كالبورصة والموازين التجارية، وذلك أدواء الإحصاء والاستقصاء حكر على هؤلاء، أو ربما لم يكن الكثيرون يرغبون في الدخول في هذا العالم الذي يحتاج إلى عقول عبقرية ترصد وتحلل وتجمع وتطرح وتضرب وتقسم، إلا أن الأمر انتقل شيئاً فشيئاً إلى العلوم الاجتماعية بعد انخراط عناصر الإقصاء والإحصاء مع تلك العلوم، فلم تعد السياسة خارج سياق الاقتصاد، ولم تعد التحليلات التي تخص إدارة الحياة بعيدة عن المعلومات والأرقام العلمية والرياضية.
الجزء الثاني الذي يجب ألا نغفل عنه هو الإشكالية التي كانت تعيق الدخول في مجال التحليل والبحث البياني ما يتعلق بعدم القدرة على الحصول على المعلومة خاصة في عالما العربي، فالمعلومة إن وجدت لا يمكن الاستناد إليها؛ لأنها في الغالب مشوهة، لكن مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل أصبحت المعلومة تأتي بسرعة الصاروخ، وتجاوز الأمر أفق البحث عن المعلومة في البحث عن وسائل لضبط سيولة المعلومة.
في عام 2011م كانت هناك ورشة عمل في لندن حملت عنوان “صحافة البيانات” لتكون انطلاقة حقيقية لمفهوم صحافة الاستقصاء، ليصدر في عام 2015م كتاب عن شبكة “الجزيرة” يتناول بعمق هذا المفهوم للصحافة، ويعد دليلاً تدريبياً للمهتمين والباحثين في هذا المجال، لما حواه من أمثلة ونماذج قوية والدليل من إعداد جوناثان جراي، وليليان بونيجرو، ولوسي تشيمبرز، وترجمه محمد شقير، متوافر باللغات العربية والإنجليزية.
ولعل ما جاء في الدليل هو ربطه بين هذا النوع من الصحافة واستخدام الكمبيوتر، فقد ورد في الفصل الثاني تأكيد على ذلك حيث قال الدليل: إن هناك تاريخاً طويلاً وراء استخدام البيانات لإعداد التقارير وتقديم معلومات منظمة، وربما تكون “الصحافة بمساعدة الكمبيوتر” أو “CAR” هي الأقرب لما نطلق عليه الآن اسم صحافة البيانات، فقد كانت أول أسلوب منظم ومنهجي لاستخدام الكمبيوتر في جمع وتحليل البيانات من أجل تحسين الأخبار.
اليوم وعلى صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، نشر الصحفي سيلفادور دالي والذي عمل بقناة “الجزيرة” تدوينة تحت عنوان “وداعاً صحافة الكلمات”، أكد فيها أن العالم الآن يعيش في ركاب نوع جديد من العمل الصحفي لا مكان فيه للكمة بقدر ما أصبحت المكانة للرقم؛ أو بمعنى أدق لتحليل الرقم الصحفي الذي حمل في جيبه الأيمن هاتفه الذكي، وفي جيبه الأيسر مفتاح جهازه اللوحي الحديث الذي يمتلك فيه أقوى برامج جمع المعلومات وفرزها وأرشفتها هو الذي سيتسيد هذا العالم، وبرغم صغر التدوينة التي لم تتجاوز 400 كلمة فإنها كانت عميقة، بها استدلالات قدمها الإعلامي سيلفادور، وآخرها الاستدلال بواقعة فضيحة ملفات بنما.
وعلى هامش هذا الموضوع، فإننا في مجلة “المجتمع” بدأنا انطلاقة نحو هذا النوع من الصحافة تحت عنوان “الإنفو جرافيك”، قدمنا فيه تجربتنا، ونسعى لتطويرها، ونفتح الأفق أمام الجميع للمشاركة والتحسين والتوجيه، ويمكن الاطلاع على تلك النماذج على الرابط التالي:
http://mugtama.com/infograph.html