إذا ما أردنا أن نتحدث عن الحرية من مفهوم مختلف فهي نوعان برأيي الشخصي؛ حرية الجسد وحرية الفكر – وطنياً أعني – أما حرية الجسد فهي رهن بالقوي؛ لا يمكن للضعيف أن يتحكم بها حتى وإن كان على حق، لأن القوة هنا هي التي تحدد مجريات الأمور الحسية، وهذا الأمر له شواهده الكثيرة في التاريخ وعبر الأزمان، والواقع في فلسطين يحكي كل الحكاية.
أما حرية الفكر فهي القوة الأعظم والأنقى بين البشر، فحين يمتلك الفرد هذا النوع من الحرية فإنه يمتلك حينها مقاليد القوة غير الحسية، ويصبح ملكاً لنفسه وحراً لذاته وبذاته، وحرية الفكر هنا هي التي تحدد الكثير من الأمور رغم أنها غير حسية؛ حيث إنها تمنح القوة النفسية وهي الأساس في أي معركةِ تحدٍّ قد يخوضها الجسد في سبيل البحث عن الحرية.
خلال تجربة الإضراب المفتوح عن الطعام كان لهذا المفهوم تجسيد حقيقي، فتقدمت حرية الفكر خطوط المعركة والدفاع من أجل تحصيل حرية الجسد، وكان لها الدور الأبرز، فلو لم تكن هناك حرية فكر لما سعى الأسير لتحقيق حرية جسده، ولبقي هذا الجسد مكبلاً يشكو ظلم الظالمين.
في سبيل البحث عن الحرية بمفهومها الذي نختاره نحن والذي نريده نحن، هناك الكثير من العقبات، هناك ألوان من العذابات يجب أن نمر بها ليس لأننا ضعفاء بل لأننا نواجه الباطل والقوة التي تمنع حرية الجسد.
سعى الاحتلال كثيراً بعد أن قيّد الأجساد؛ إلى تقييد حرية الأفكار، وهذا واضح جداً وواقع نعيشه يومياً، يحاول بشتى الطرق أن يحول مسارات الفكر المقاوم والمناضل إلى مسارات مهذّبة بمفهومه كي تتحول إلى قوة مع مرور الزمن تطغى على الحق المشروع والمطالبة به.
الحديث هنا اليوم عن محاولة لرفض هذا السعي من قبل الاحتلال، بدايةً معركة الإضراب؛ وأصر على أن أسميها معركة لأنها تستوفي شروط ذلك؛ ففيها المقاتل والعدو والوسيلة والحق المقدس الذي يدافع عنه وهنا هو الحرية بأسمى معانيها جسداً وفكراً، هذه المعركة حملت الكثير من أشكال الرفض وأولها رفض تقييد الفكر كما رفض تقييد الجسد.
والحراك الشعبي الذي كنا نطالب به طيلة فترة الإضراب كان هو الوسيلة للتحرر من قيد الفكر، فكل الشعب ليس أسير الجسد بل ضحية لمحاولات أسر الفكر، وهنا كانت النهضة وكان الهدف أن يرتقي الإدراك الشعبي لمخاطر هذه السياسة فيتحول الشعب إلى حر فكرياً.
وفي بادئ الأمر كانت الفكرة ذات أبعاد كبيرة، فالخوف -جراء سياسات القمع والترهيب المتكررة والهادفة لنزع القوة الفكرية – كان ملأ قلوب أفراد الشعب ووضعهم في بوتقة عدم المشاركة الفعلية في أي حراك حقيقي لرفض هذه المهزلة، طبعاً أتحدث عن مهزلة استمرار اعتقال أسير ممتنع عن الطعام والمدعمات لفترة طويلة.
التدرج في نزع الخوف كان عنواناً لمرحلة أخرى، ففي البداية كان الحراك معنوياً فقط واقتصر على الدعاء والأمنيات بالانتصار، ولكن لأن صاحب المعركة نفسه حر فكرياً ويسعى لحرية جسده بهذه الطريقة، فإنه أعطى دفعة كبيرة للبدء بحراك شعبي انطلق من مراكز المدن وبعض البلدات والقرى والمخيمات.
كسر الخوف كان جزءاً من التحرر الفكري وكسر القيد الذي حاول الاحتلال أن يفرضه على الشعب، وصل الأمر بكسر حاجز الخوف ومرحلة التحرر فكرياً من قيود المحتل إلى المواجهة المباشرة، وهو ما شهدناه خلال أيام الإضراب من التوجه إلى نقاط التماس والتعبير عن الغضب الشعبي هناك.
ولا شك أن حرية الجسد والفكر إذا اجتمعا فسينتجان الحرية بأسمى معانيها والتي نطمح لعيشها ونقاوم لأجلها، فالسجن لا معنى حقيقي له إذا اجتمعت حرية الجسد وحرية الفكر وهذا ما يخشاه الاحتلال، وهذا ما يسعى إلى طمسه بطرق مباشرة وغير مباشرة، ولكن نقول: ما دام هناك نفَس على خوض معارك الإضراب عن الطعام فحرية الفكر لدى أسرانا بألف خير.
المصدر: موقع “بصائر تربوية”.