صحيح أن تاريخ الحركة الإسلامية المغربية لم يدون بعد، وصحيح أن الحركة الإسلامية المغربية في نشأتها ومسارها، هي غابة من الأسرار، وأن من يمتلك مفاتيح فك شيفرة هذه الأسرار هم آحاد قليلون، غير أنه قد آن الأوان كي يسبر التاريخ أغوار ومجاهيل هذه القارة الصامتة.
وفي تاريخ الحركة الإسلامية المغربية، وفي غابر أيامها، ينتصب يوم له قيمة تاريخية رمزية حاسمة، لأنه اليوم الذي يفصل بين عهدين رئيسيين في مسار الحركة الإسلامية، عهد الشبيبة الإسلامية، والعهد الذي سيفضي بعد مراحل طويلة، وتطورات متلاحقة مضطردة، إلى الحزب الإسلامي العتيد، حزب العدالة والتنمية، الحزب الذي سيتصدّر الحياة السياسية بالمغرب بعد سنة 2011، بعد منعطف الربيع العربي.
إذ في يوم 28 مارس 1981، انتهت الشبيبة الإسلامية كتنظيم للحركة الإسلامية، ترك آثاره على صفحة التاريخ السياسي والاجتماعي المغربي، وانطلق قطار التنظيم الذي سيتمخض عن ولادة الحزب السياسي الإسلامي، الذي سيقود الحكومة المغربية، بعد ثلاثين سنة من النشأة الجنينية للتوجّه الجديد المتبني لخيار الاندماج في النسق السياسي للبلاد.
ففي هذا اليوم الربيعي من السنة التي كانت حافلة بالأحداث الملتهبة، وطنياً وعربياً ودولياً، سنة 1981، التأم شمل عشرين مسؤولاً تنظيمياً، ممن كانوا يتولّون قيادة تنظيم الشبيبة الإسلامية في امتداداته عبر ربوع الوطن، ليتداولوا خلال ساعات طويلة من النقاش المتوتر، يوماً وليلة، في قرار فك الارتباط مع القيادة المؤسسة للشبيبة الإسلامية، ممثلة في عبدالكريم مطيع.
مرحلة الانطلاقة
كان الاجتماع الذي انعقد في مدينة الدار البيضاء، سابقة في تاريخ الشبيبة الإسلامية، فلأول مرة يجتمع قياديون للعمل التنظيمي، من مدن متعددة، بعد أن كانت النخب القيادية، في سابق الولايات، تتمركز فقط، في مدينة الدار البيضاء وحدها، متحكمة في باقي المدن التابعة.
كانت الملابسات التي اكتنفت مسار الشبيبة الإسلامية، هي التي عجّلت بالمآل الذي أفضى إليه الاجتماع القيادي المذكور.
فقد كانت محطة ديسمبر 1975، بوقوع حادث اغتيال عمر بنجلون، محطة فاصلة بين مرحلتين من عمر حركة الشبيبة الإسلامية، مرحلة النشأة والتأسيس، وإعداد الأنوية العاملة، والتعريف بالتوجه الإسلامي، بالإشراف المباشر للقيادة المؤسسة، إبراهيم كمال، عبدالكريم مطيع، المرحوم علال العمراني، محمد زحل، المرحوم عمر عصامي، القاضي برهون، وفي المرحلة الثانية، وفي غياب عبدالكريم مطيع، بالهجرة الاضطرارية، وغياب إبراهيم كمال بالاعتقال، على ذمة قضية اغتيال عمر بنجلون، اشتغلت الحركة على توسيع البناء التنظيمي عمودياً وأفقياً بتغطية المدن والمناطق والقطاعات، واشتغلت على التدبير الإعلامي والقانوني للدفاع عن براءة الشبيبة الإسلامية وقيادتها من دم عمر بنجلون.
غير أن الأحكام التي أسفرت عنها المحاكمة، ليلة 18 سبتمبر 1980، بإدانة عبدالكريم مطيع بالسجن المؤبد، حكماً غيابياً، وببراءة إبراهيم كمال، عجلت بانعطاف حركة الشبيبة الإسلامية نحو مصير غامض مجهول. ليس لأن القيادة الداخلية صدمتها الأحكام، فقد كانت تترقب الأسوأ، وليس لأنها لم تكن واعية بمهامها وأدوارها، فقد كانت راسمة إستراتيجية الحركة، الدعوية والتنظيمية والتربوية، على غرار مثيلاتها في الحركة الإسلامية كونيا، ولكن لأن عبدالكريم مطيع فاجأ القيادة الداخلية بالاختفاء الكلي وقطع الاتصال، إلا عن دائرة محدودة متكتمة، وقد كان مقيماً متنقلاً بين السعودية والكويت، إلى أن خرج على الجميع بإصدار مطبوعة المجاهد، وتسريب آلاف أعدادها إلى الداخل عبر الحدود.
كان ذلك خلال ديسمبر 1980، وتلقف المطبوعة المهربة، أفراد التنظيم بأكمله، من أعلى المراتب إلى أدناها من القواعد، بعضهم يلتهمها بنهم المشدوه الداهش، وأغلبهم كان يطالعها بانتشاء غامر سافر، لما خامرته في أنفسهم من هوى بالرفض والسخط والصدام، ساكن في أحشائهم حتى النخاع، دون أن يستشعروا مخاطر التبعات التي يدعو إليها خط المطبوعة المحرض على الاصطدام بالحكم بوسائل العنف الثوري.
والواقع أن الجميع كان غارقاً في سكرة الصدمة بنداء مطبوعة المجاهد وتعبيراتها، فقد كانت من أقسى وأعنف وأقذع التعبيرات السياسية الاستعدائية والتحريضية ضد الحكم، بما لم يسبق إلى ذلك حتى أعتى المعارضات الراديكالية، الاتحادية أو الماركسية اللينينية.
وحده رجل كان مستفيق الحس والإدراك والضمير والتقدير السليم، ووحده الرجل الذي كان نافذاً عند الجميع بهيبته ومكانته وسابقته وسداد رأيه، وحده المرحوم علال العمراني الذي صرخ في الجميع ليعودوا إلى رشدهم، صرخة مدوية كانت بمثابة نفخة إسرافيل، رفعت اللبس والغموض، وأنعشت القوم من سكرتهم.
كانت القيادة التنظيمية للدار البيضاء، وهي الأقرب إلى علال العمراني، فكراً وتنسيقاً وتخطيطاً، أول من تجاوب مع النداء، وبادر إلى تدارس الأوضاع واتخاذ الموقف الملائم من المستجدات والتطورات، التي من خلالها ظهر أن عبد الكريم مطيع قد آوى إلى ليبيا، وأن الشبيبة الإسلامية أقحمت في زحمة الصراع بين الأنظمة السياسية.
وبحكم أن الدار البيضاء وامتداداتها التنظيمية على الصعيد الوطني، كانت تمثل الثقل التنظيمي في الشبيبة الإسلامية، فقد بادرت قيادتها إلى التنسيق وطنياً، وعقد اجتماع قيادي وطني، كان بتاريخ 28 مارس1981.
ولأول مرة تنحاز قواعد التنظيم بمجموعها إلى موقف قياداتها الوطنية الداخلية، وتفوض لها اتخاذ الموقف الحاسم في تقدير العلاقة مع عبدالكريم مطيع، وكان ذلك راجع إلى الثقل والوزن الذي يحظى به المرحوم علال العمراني، وإلى الثقة التي تحظى بها القيادات الداخلية، وقد تطوّر النقاش من ضرورة فصل الخط المتورط في الزج بالشبيبة الإسلامية في أتون الصراع بين الأنظمة السياسية، إلى القرار الذي خلص إليه المجتمعون فجر اليوم الموالي، بالقطيعة التنظيمية مع قيادة عبدالكريم مطيع، وبالتخلي عن تسمية الشبيبة الإسلامية، سداً لكل الذرائع المحتملة، وإخلاء لذمة الحركة من التبعات والمسؤوليات، وبإنضاج الشروط التنظيمية لاكتساب الصفة الشرعية القانونية، والعمل من خلال تسمية جديدة.
وبعد خمسة أشهر من المخاض التنظيمي، وترتيب البيت الداخلي،وحسم النقاشات والمشاورات في إستتراتيجية التوجّه الجديد، وتحديد الأولويات والمفاهيم والأدبيات المؤطرة لهذا التوجه، أطلقت التسمية الجديدة، الجماعة الإسلامية، بديلة عن تسمية الشبيبة الإسلامية، وكانت من اقتراح القيادي المؤسس محمد زحل.
وفيما التزم إبراهيم كمال موقف الحياد، مراعاة لأبوته الروحية للجميع، وهو القيادة المؤسسة المفرج عنه من الاعتقال بالحكم ببراءته، تمسك عبدالكريم مطيع، ومن بقي برفقته خارج البلاد، بالشبيبة الإسلامية وبإصدار البلاغات باسمها.
استمرار رغم الاعتقالات
ورغم النوايا الحسنة والسلمية التي أعلن عنها تنظيم الجماعة الإسلامية الجديد، بتوجهه نحو الاندماج والمشاركة والعمل من خلال الشرعية القانونية، ورغم أن تلك القيادة العشرينية، وبقرارها التاريخي في ذلك اليوم الربيعي الاستثنائي، حمت البلاد والعباد من الانزلاق نحو مسار صدامي دموي، في وقت كانت الأوضاع تمور بالتوتر، وكان شباب الحركة الإسلامية يفور من الغليان، بالرغم من ذلك، واجهت السلطات هذه القيادة بالاعتقال والمطاردة، وهكذا وخلال شهر نوفمبر 1981، تم اعتقال بعض من قياديي الجماعة الإسلامية ممن حضروا الاجتماع الواقي لاستقرار البلاد، وهم المرحوم علال العمراني، ادريس شاهين، عبدالله لعماري، عبدالله بلكرد، عبدالرحيم ريفلا، من الدار البيضاء، وعبدالإله بنكيران من الرباط، وعبد العزيز بومارت من مكناس، وبقي الآخرون مطلوبين للاعتقال، ملاحقين بالبحث عنهم.
وفي غمرة الاعتقالات والمطاردات بقي تنظيم الجماعة الإسلامية قائماً، يعمل تحت الأرض، بتصريف شؤونه من طرف المرحوم عبدالله بها من الرباط وعبدالكريم حميم من الدار البيضاء، والذي سيعرف بدوره الاعتقال لاحقاً.
وبعد شهور من الاعتقال السري في معتقل درب مولاي شريف، وبعد الإفراج عن الجميع، وعودة الملاحقين إلى بيوتهم بعد رفع البحث عنهم، ستعرف الجماعة الإسلامية هدأة تنظيمية مؤقتة خلال سنة 1982، والنصف الأول من سنة 1983، ساد فيها تقاطب داخلي بين جناحين، جناح الدار البيضاء وجناح الرباط، كان من خلاله تتنازع التصورات والتقديرات لتقييم المرحلة، واستشراف الآفاق القادمة، وكانت تتدافع الآراء حول تحديد الجسم القيادي للمرحلة، غير أن هذا التقاطب، والنقاش المتفاعل، ستحسمه السلطات بضربة أمنية قاصمة، لا مبرر لها ولا مشروعية لها، ولا وصف لها سوى أنها عمل تعسفي لا سند له ولا قانون، يتخذ من آلة الاعتقال وسيلة لتوجيه دفة التنظيمات، وتفكيك مراكز القوى، وترجيح كفة على أخرى، إذ تم الزج من جديد في الاعتقال السري، شهوراً بدرب مولاي شريف منذ صيف 1983ببعض قياديي الجماعة الإسلامية بالدار البيضاء، عبدالله لعماري، عبدالله بلكرد، عبدالرحيم ريفلا، وإقحامهم بعد ذلك في محاكمة مجموعة الـ71، المحاكمة التاريخية الأولى للحركة الإسلامية بالمغرب، والتي فصلت فيها الأحكام لتنظيمات إسلامية بالإعدام والسجن المؤبد، بينما فصل فيها لقياديي الجماعة الإسلامية الحكم عشر سنوات سجناً، وفقط من أجل توجيه قواعد هذه الجماعة الإسلامية، نحو الوجهة التي ينبغي سلكها.
وبهذه الوجهة الجديدة، سينتقل مركز الثقل والريادة من جناح الدار البيضاء إلى جناح الرباط، وسيقود عبد الإله بنكيران ومحمد يتيم وعبدالله بها، ممن حضروا الاجتماع التاريخي، مسار التنظيم نحو جمعية الجماعة الإسلامية، فحركة الإصلاح والتجديد،ثم حركة التوحيد والإصلاح فحزب العدالة والتنمية بعد الاصطفاف وراء قيادة المرحوم الدكتور عبد الكريم الخطيب في حزب الحركة الشعبية الدستورية.
غير أن فريقاً آخر من تلك القيادة العشرينية من جناح الدار البيضاء، وبعد سنة 1984، سنة المحاكمة الإسلامية، سيكون على موعد مع مسارات أخرى، فقد تفرّغ المرحوم عبد الحميد الغدان لتدبير التضامن مع المعتقلين الإسلاميين في كل السجون، دفاعاً عن قضيتهم وسعياً لتوفير سبل الدعم لصمودهم ولإعانة عائلاتهم، بينما اختار سعيد سمين وعبد المالك بشرو مسار إدخال مشروع الحركة الإسلامية إلى العمل النقابي وإلى الميدان السياسي، وهكذا بادرا إلى التنسيق المبكر أواخر الثمانينيات مع الدكتور الخطيب، رفقة إخوانهم محمد حراتي وعبداللطيف هندي وبوشعيب صدراوي وعبد الإله الدروي وآخرين، في حركة إحيائية للنقابة، الاتحاد الوطني للشغل، وابتعاث للحزب الجامد، الحركة الشعبية الدستورية، بما كانوا به أول من هيأ المهاد المريح لالتحاق حركة التوحيد والإصلاح سنة 1996.
وإذن، فإن حزب العدالة والتنمية هو ذلك الصرح الكبير الذي شيدت لبناته عقوداً متوالية، من تراكم عطاءات وتضحيات ونضالات أفواج الحركة الإسلامية وأجيالها، حركية واعتقالاً وأعماراً في السجون ومطاردات أمنية ونكبات وتشرد للعائلات، وعبقرية وإبداعاً، تضافرت فيها جهود ما قبل 1981 وما بعده.
وما ذلك سوى غيض من فيض.