ماذا لو جازفنا وحاولنا استحضار جهازين نظريين لتوظيفهما في ترجيح وتحقيق واقع الأمة الراهن، بحيث تكمن المجازفة في ثقل المنظومة الفكرية للجهازين إضافة إلى البون الزمني الشاسع الذي يفصل بين النظرتين: الحضارية عند مالك بن نبي، والعمرانية عند عبدالرحمن بن خلدون؟
إذ لا بد بداية من ترسيم الحدود النظرية لكليهما وتعيين الإحداثيات في سبيل علاج الموضوع الراهن المتعلق بالتخلف الحضاري في ظل من تحولات جذرية كبرى تحصل منذ أقل من عقد من الزمن في قلب العالم الإسلامي الذي تمحورت حوله محاولات الرجلين في فهم العلل والقوانين الاجتماعية-السياسية التي تتصرف فيه.
لم يدّع مالك بن نبي أنه قدّم أكثر من مقاربة لواقع أزمة الإنسان المسلم حين وضع جل مؤلفاته ضمن سلسلة سماها بـ”مشكلات الحضارة” أرسى فيها تحليلاته لمختلف الظواهر في العالم الإسلامي على هدي من فقه السنن الحضارية التي لا تتبدل أو تتحول، في ذات الوقت الذي استعان فيه كثيرًا بالإطار المعرفي الغربي، مثل استعانته بأرنولد توينبي في نظرية التحدي والاستجابة الحضارية أو بالنظرية التايلورية في الانتاج الاقتصادي وانتهاءً إلى أن الغالب من تفكيكاته للوضع الإسلامي جاءت ضمن مقارنة صريحة أو ضمنية مع الغرب المتقدّم.
بينما زعم ابن خلدون بصريح عبارته استنباطه لعلم لم يُسبق إليه يتمثل في علم العمران البشري والاجتماع الإنساني، فجاءت مقدّمته كلها برهان عقلي وواقعي، ولذا جاءت في “فصول” تطول وتقصر خصص أحدها: لـ”إبطال الفلسفة وفساد منتحلها” في مناقضة صريحة للمنهج اليوناني في التفكير، إذ رأى أن انتشاره اللافت في الأمصار الإسلامية لن يؤدي إلا إلى إفساد الدين والعقل.
ثم إن بن نبي قدّم تحليلاته في إطار من القوانين الحضارية الكبرى التي يمثلها المنحنى الحضاري المقسّم إلى ثلاث مراحل أساسية هي: الروح والعقل والغريزة، بينما قدّم ابن خلدون تصورًا للدورة الحضارية أساسه العصبية المتغلبة التي تستفرد بالدولة، والتي ما تفتأ تتدرج في سلم القوة حتى تنحل عصبيتها فتأفل دولتها، بينما وجد بن نبي في الفكرة الدينية العامل الأهم في بناء الحضارة.
والفارق الأول بين المقاربتين أن دائرة ابن خلدون كانت الأقصر من نظيرتها عند بن نبي، وهذا يعود رأسًا إلى طبيعة المعطى التاريخي الحضاري عند كليهما، فلم يشتغل ابن خلدون بأمر الحضارات الأخرى ما دامت الحضارة الإسلامية هي السائدة آنذاك، بل دفعه ذلك إلى الانكباب على الشأن الداخلي للبلاد المسلمة منتهيًا إلى التفكير في العلل السببية والموضوعية بوصفه الرجل الأول الذي جلس على مسافة من الانغماس الفكري في خضم الحركية المنسابة للتاريخ والآذنة بالدخول إلى مرحلة الغياب الحضاري، فلم يكن أمامه إلا التوقف لاستعادة التاريخ نقديًا بما أوصله إلى فكرة الشروط الواقعية لقيام الدول بما لم يستثن منه حتى دولة النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال عنها إنها قامت بسند من قومه بني عبد مناف.
أما بن نبي وعلى العكس من ابن خلدون فقد قارب الحضارة من منطق تداولها بين الأمم المختلفة دينيًا وجعل من الفكرة الدينية المفعّل الرئيس للعناصر الحضارية المتمثلة في الإنسان والتراب والزمن، في حين حلل ابن خلدون التداول ضمن منطق العصبيات داخل الحضارة الواحدة وهي هنا الحضارة الإسلامية ووجد في المنطق العصبي العنصر الأساسي لقيام الدول، لذلك يأتي السؤال هنا تحديدًا، هل الأمر متعلّق باختلاف صريح بين الرجلين في تحديد العنصر المؤسس للحضارة أهو العصبية أم الدين؟
للإجابة عن الإشكال سنحاول استحضار الإطار المختلف للمقارنة بين الحضارية والعمرانية لهما، ولنبدأ باستنطاق بعض الاختلافات المركزية كما يلي:
بين استعادة التاريخ والنهوض الحضاري:
لقد قام ابن خلدون كما تقدّم باستعادة نقدية للتاريخ الإسلامي وقراءته قراءة عقلية صرفة، أي أنه عاد أدراجه إلى الماضي بعد أن تيقن أن السعي للتخطيط للمستقبل لن يجدي وأن أمر استدراك الحضارة لذاتها متعذر، فما كان أمامه إلا تحرير الماضي من الرواية وتأصيله عقليًا؛ ذلك أن الرواية كانت السمة الأكثر بروزًا ضمن الحضارة الإسلامية، وهذا بالتأكيد ليس نفيًا لها بقدر ما هو موضعة للتراثين الديني والتاريخي كل في موضعه، فلقد كانت المهمة الرئيسة التي قام بها هي حفظ الرواية الدينية في مجالها النقلي وإخراج الرواية الدنيوية (القص التاريخي) إلى العلاج العمراني العقلي أولًا، وإرساء معايير قبول الروايات وردها في حال اقتضاء العودة إليها ثانيًا.
أما بن نبي فحاول اصطحاب المنظور الحضاري للنظر إلى المستقبل في وضع قاهر يعيشه العالم الإسلامي تحت سطوة الغرب الصاعد، ما جعل الحل الوجودي أمامه لا يستقيم في غير البحث عن التركيب الفكري الفاعل الذي يدامج في غير ما تكلف بين الأصيل والدخيل، ضمن رؤية عملية هدفها تحقيق التحرر الحضاري تصوريًا أولًا قبل البحث عنه في جنبات العالم الفعلي، فكان أن نحت مفهوم “القابلية للاستعمار” ليكون رمزا إلى طبيعة الجهاز المفاهيمي المفارق لما كان سائدًا قبل زمنه من خطاب وعظي قائم على الشحن العاطفي وآخر نظير له يدعو إلى التبني الكامل للمعطى الحضاري الغربي، فجاء بن نبي متمسكًا بأصوله مقتحمًا بجملة وعيه فضاء الحياة الحديثة بكل زخمها سعيًا منه لتكوين إنسان المستقبل بالوعي قبل التربية.
فنجدنا وكأننا أمام رجلين لا ينتميان إلى جنس معرفي واحد، أحدهما أسس علمًا قائم الذات والأركان لم يبن منهجه على جمع بين مفارقات لم تكن موجودة أصلًا في زمنه، وآخر حاول مجاوزة ذاته والتعالي على مفارقات تكونت في عز “الصدمة الحضارية”، حيث أدوات المعركة التي بها سادت الحضارة السابقة ليست كتلك الموجودة اليوم.
لم تكن المفارقة عند ابن خلدون وقائعية بقدر ما كانت نظرية، فالظرف الحضاري السياسي الذي عاش فيه كان مرحلة قوة وعز للمسلمين، فلا نلمس في “المقدمة” أدنى هاجس من التغلب الفعلي الآخر، لكن هاجسه كان سعيًا منه لتحرير الخصوصية الإسلامية فكريًا، وفك الارتباط بين الممارسة الفكرية الحرة، أو قل الخصوصية الفكرية للمسلمين الواردة أصولها ومبادئها في التراث المقدس المتمثل في الوحي قرآنًا وسنّة، وبين المنهج الفكري اليوناني كما تقدّم، فضلًا عن تأسيس معايير للقص التاريخي حتى لا يغدو التاريخ حقائق تختلط بأهواء الناس وميولاتهم.
والخلاصة تكمن في أن ابن خلدون تحسّس الإشكال نظريًا صرفًا دون أن يرى مقدماته الواقعية وبين ابن نبي الذي تضاعف الإشكال عنده فصار واقعيًا ترى آثاره على الإنسان المسلم رأي العين، وهذا ما يفسر أن المحاولة الخلدونية جاءت أعمق وأكثر تعاليًا على تفاصيل الظروف إلى درجة أن جرعتها العلاجية للظرف العربي الإسلامي كانت قاتلة كما تصور ذلك أبو يعرب المرزوقي، وكما يمكن أن نضيف بأنها جاءت استشرافًا للنهايات وإسدالًا للستار على حقبة من التاريخ الإنساني، أعني أنه جاء ختامًا للمحاولات الفكرية والعلمية في تاريخ الفكر الإسلامي أخرجت عن طريق ابن خلدون كل أخبارها، ومن جهة أخرى بوصفها الإضافة الأهم التي نقلت الفكر الإسلامي ذاته من فضاء الجرح والتعديل الروائي إلى فضاء التحقيق والترجيح العقلي.
بينما جاء بن نبي ضمن مغامرة الفكر الاجتماعي الإسلامي في العصر الحديث بإيجاد مكان له في ظل ظروف صار فيها العالم الاسلامي هامشًا حضاريًا، وأن كل ما قدّمه كان على سبيل تأسيس قواعد عامة منها وعلى أساسها يتم إعادة صياغة الفكر الاجتماعي الحديث برمّته، وذلك ما عبرت عنه فكرة الأسلمة كمرحلة ابتدائية والتي آلت وتؤول إلى تفريعات مختلفة منها ما أخذ الشق المعرفي الإبداعي منها ومنها ما أخذ الشق العقدي الأصولي في تعبير عن تفرع الفكر البنبوي (نسبة إلى ابن نبي) إلى مجاري ستعود حتمًا لتتلاقى في مصب واحد، بعد أن يهدأ المخاض الواقعي من جديد.
جدلية الدين والتغلّب والمشروع الروحي للأمة:
أما لو ساءلنا اختيار الاصطلاح لدى الرجلين فإننا نجد أن ابن خلدون انطلق من نقطة صفر، هي مرحلة نهاية الكونية الإسلامية الأولى، عائدًا إلى الوراء مؤسسًا للنهج العقلي لأول مرة في تاريخ الفكر الإسلامي، أما ابن نبي فقد ألفى نفسه في بداية تحول غير معلوم النهاية، على الأقل في تفاصيله، وإن كان مؤمنًا دائمًا بأن الإسلام هو بناء المستقبل لكن بأي سبيل وأي إسلام، خاصة أنه قد غدا اليوم إسلامات عديدة!
فقدّم نبوءات فذة كتلك التي وضعها في الكمنولث الإسلامي عن الانفجار الممكن حدوثه في غفلة عن المراقبين والمؤطرين يكون على أيدي الشباب، الانفجار الذي حصل راهنًا وما فتئ يمتد، ووضع في ذات المؤلف التقسيمات الكبرى لعالم الإسلام وتوجس من إمكان عدم الانسجام والالتحام لما يحويه من خليط عقائدي إسلامي يصل حد التنافر، هذا الخليط الذي تعجّن راهنًا وأصبح كالهشيم تذروه الرياح أنى شاءت بمثابة جمهور تائه لا يعرف طريقه التي ضلها، جموع بلا عقل تسير؛ فمن لها؟
كذلك وقع ابن خلدون على التشكيل العقائدي الإثني، لكنه كان حينئذ منتظمًا في نظام تداول داخلي لا يخطئه التاريخ عندما يأذن بظهوره وأفوله، أما ابن نبي فوجد نفسه في إناء تتحكم في إناء خليطه الإثني قوي خارجية، حيث هنا السؤال: هل قانون العصبية والتغلّب ما يزال ساريًا؟ أم أن التمدّن جعل منه إرثًا من الماضي؟ وإذا كان الأمر كذلك فما كان البديل المدني عن التعصّب؟ وفرضًا كان الأمر كذلك فكيف يكون المخرج؟
هنا الحكاية كلها، هل فصّل الرجلان في ظروف التحول وأسبابها؟ المؤكد لا، فالرجلان قدما تشخيصًا لواقع وبيانًا لسننه، أما الوقائع فالتزما الصمت عنها، وإن كانا يتنبآن ولو عن طريق غير مباشر فهما قد التزما الصمت بخصوص الحركة والتحريك على أرض الواقع، كانت حركتهما حركة فكر فحسب، وليس هذا تخاذلًا ولا خذلانا كما يتصور “الفكر الجاهز للاستعمال”، بل إن جوهر العمل متضمن في الفكر والاقتصار عليه، وإلا فإننا نكون إزاء فكر نضالي تحكمه موضة الالتزام في العمل!
ولا علاقة لفصل الفكر عن الممارسة بفكرة “خذوا قولي دون عملي” المنكَرة في الدين كما يؤدي إلى ذلك المعنى الأخلاقي، ذلك أن الأمر هنا متعلق بفكر أو قل أيديولوجيا يؤدي الالتزام بها إلى تشويش كبير إن على مستوى الفكر فهي تعطّله، وإن على مستوى العمل فهي تقيده، كما لا علاقة له بالتقية السياسية، ذلك أن مقتضيات السياسة ناتجة عن عمق التصورات الفكرية والعلمية التي يعد إصلاحها هو الأولى، فضلًا عن أن التحيز في التاريخ يعد عائقًا عن الكونية التي هي روح الإسلام ذاته.
هنا تتلخص كل القضية إذن: البداية “مشروع روحي” واضح المعالم كوني الامتداد. حيث تكون البداية متعالية، وما يعطي التجربة الإسلامية الخالدة تعاليها هو الفكر، أعني تقمّص الدين نظريًا (بما يقابل العقيدة في المجال العملي) والعمل على تعليمها، وهنا يكمن الالتزام إن كان ضروريًا، فهو الالتزام بالبلاغ العلمي المتجاوز لكل حدود الانتماء، هنا تأتي الفكرة الدينية الشاملة عند مالك بن نبي كمفعل للعناصر الحضارية.
أما فكرة العصبية الخلدونية فلا بد من أخذها هنا بمعناها المعجمي: “ما يشدّ المفاصل ويربطها بعضها ببعض” فيأتي كعضد للحقيقة الدينية يسندها قبل وأثناء وبعد الظهور، وهي تنتظم شيئًا فشيئًا بعد استقرار الأحوال ليعاد توجيهها لخدمة المشروع الروحي، ومن ثم فالعصبية تأخذ أشكالًا من المرونة والتصلب حسب الحقب التاريخية، وأن أكثر مراحلها مرونة هي مرحلة التحول التي تستقطب أناسًا من مختلف الأعراق والأجناس استجابة لنداء الفكرة.
وبين الروح السائحة في السماء والرباط الذي يعضدها على الأرض تكمن حكاية الحضارة كلها، وذلك النظر العقلي الذي يحث عليه الدين، {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}، وذلك الجناح الذي يشير إليه النص الديني في الإسلام ولا يفصّل فيه، ومبدأ ذلك الرؤية التاريخية التي تحتاط بالنسبة الضامنة لتحقيق التجديد ضمن أُطر الفاعلية.
—
* المصدر: مركز نماء للبحوث والدراسات.