تداولت مواقع صورة لثوب طويل؛ تخيّل راسمه أنه يشبه ثوب آدم عليه السلام!
يا بني الكريم!
كان لباس والديك أول الأمر البراءة والغفلة عن معنى العورة، كما يحدث لوليدٍ يشم روح الحياة لأول وهلة، ولذا قال وهب بن منبه وغيره: “كان لباسهما النور”، وقال مجاهد: “نزع عنهما لباس التقوى”.
وكأن لحظة الأكل من الشجرة فتقت معنى كامناً من الغريزة في نظر بعضهم إلى بعض، وهو جزء من القدر الرباني في التوالد وامتداد الذرية.
ومال الإمام الطبري إلى التفسير باللّباس المطلق بغير إضافة إلى شيء متعارف عليه بين الناس، وعليه: فيجوز أن يكون ظفراً أو شعراً أو نوراً أو غير ذلك.
وأول لباس مستقل ظاهر لبسوه كان من ورق الجنة، وتمت صناعته بطريقة “الخَصْف”، مثل الخرز، ويشبه الخياطة، ويعني ضم أطراف الشيء بعضها إلى بعض ثم شبكها بعود أو نحوه.
لم يأخذا من ورق الشجرة ذاتها، بل من ورق الجنة، قيل: لأنهما أمعنا في الهرب حياءً من الله بعدما لحظا انكشاف سوءاتهما، والله أحق أن يستحيا منه، ولكن إلى أين المفر؟!
وبهذا أصبح اللّباس ستراً يواري عورة الإنسان ويعبر عن احتشامه، حتى من نفسه وزوجه إذا لم تكن الحاجة تدعو إلى ذلك، وكان آدم وحواء يستتران من بعضهما بهذا الورق المخصوف!
كشف العورة بين الزوجين من غير داعٍ مستهجن، واللّباس يحقق الحشمة والسّتر، ويحقق الإغراء والجاذبية في الوقت ذاته!
وبهذا أصبح اللباس من أول مظاهر الإنسانية المترقية المتحضرة، ولذا كانوا يسمون يوم العيد “يَوْمُ الزِّينَةِ”.
وصار إنسان الغابة يُعرف بالعري وعدم المبالاة بانكشاف سوءته، حتى جاءت الحضارة الحديثة فأدخلت عنصر “التزيين”، وجعلت فتنة التعري الجسدي عبر الاستعراض والرياضة والرقص والموضة وفنون الجسد.. فلسفةً تحتال فيها على اللباس العلوي الكريم؛ الذي ألهم الله آدم وحواء.
التعري جزءٌ من الحضارة الحديثة وعرفٌ اجتماعي طاغٍ، والتنافس صار في أي الطالبات أو المذيعات أو العارضات أو الحاضرات أكثر تعرياً، وكلما قلت فتنة الجسد كشفت الأنثى عن المزيد إصراراً على الإغراء والإغواء والحضور!
والشيطان يريد من الذرية ما أراد من الأبوين أن تنكشف عوراتهم وتنفرط شهواتهم، ويتشبهوا بالبهائم العجماء؛ التي تجري وراء غريزتها دون إدراك.
وبهذا أصبح اللباس رمزاً للفطرة الإنسانية منذ نشأتها الأولى، فهو كان مع آدم وحواء أول ما تفتقت فيهما روح الاجتماع والوصال واشتياق بعضهم لبعض، وتم التوازن بين الطين الأرضي والروح الملائكي.
وبهذا أصبح اللّباس جمالاً وزينة، ويكفي أنه من شجر الجنة.
وتوارث الأنبياء حب اللباس الجميل، حتى لبس خاتمهم – صلى الله عليه وسلم – الجُبَّة والحُلَّة والإزار والرداء والقميص، وكان أصحابه يحبون أن تكون ثيابهم حسنة ونعالهم حسنة، وخافوا أن يكون هذا من الكبر فقال لهم: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»!
وكان يلبس أحسن ما يجد من الثياب، حتى إن عمر رأى حُلَّةً من الحرير فائقة الجمال تُباع في السوق، فاشتراها لرسول الله لما يعلم من حبه للجمال، ورغبةً أن يلبسها للعيد والجمعة والوفود، فبيَّن له النبي حرمة الحرير!
هل تثق بذوقك في شراء اللّباس الملائم لشخصيتك؟ وهل يثق أهلك بذوقك؟
وبهذا أصبح للباس وظيفة معنوية تشعر الإنسان بهويته البشرية، وميزته الإنسانية، وتذكره بالعهد والميثاق الإلهي: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} (الأعراف:26).
فثمَّ لباس ظاهر من الثياب الخاصة الشخصية أو العامة؛ التي هي الريش.
ولباس باطن من الطيبة والخير والصلاح والتقوى والحياء؛ كما قيل:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التُّقى تقلَّب عرياناً وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
السوءة الجسدية تستر باللباس الجميل المعبر عن تميز الإنسان عن شركائه في الحياة، والسوءة المعنوية بنقائص العقل أو أمراض القلب تستر بالتجمُّل والتكمُّل والترفُّع والتصبر والمجاهدة.
و”إنزال” اللِّباس قد يعني إنزال المادة التي يُصنع منها، أو المطر الذي ينبته، أو إنزال الامتنان به وإباحته وتشريعه للبشر.
ولذا كان الأصل في اللِّباس الحِلّ والجواز، وكان النبي – عليه السلام – يلبس لباس أهل زمانه، ولبس جبَّةً روميَّةً، وجلس على قطيفةٍ فَدَكِيَّةٍ، و”فَدَك” كان فيها اليهود، ولم يكن للمسلمين لباس يميزهم عن غيرهم، ولا كانوا يلبسون اللباس الخاص بطائفة ما، والمعبّر عن هويتها وثقافتها وخصوص مذهبها.
ولا كان للنبي لباس يميزه عن غيره، حتى كان الغريب يأتي المجلس فلا يعرف الرسول – صلى الله عليه وسلم – من غيره حتى يسأل: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟!
ووقف مرةً على امْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: «اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِي»، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّى، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي! ولم تعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والتميز عن عامة الناس ليس مطلباً شرعياً، وكان العلماء يكرهون ثياب الشهرة المبالغة في الغلاء والثّمانة، أو المبالغة في الرخص والزّهادة، وجاء في الباب أحاديث صحاح.
والعرف معتبر في هذا بحسب البيئة والمجتمع وما تواضع عليه الناس، والعرف اليوم سريع التغيُّر؛ بسبب التواصل الإنساني، والشبكات الاجتماعية، والقنوات، ومرحلة القرية الواحدة!
والأجيال تتجدد وتتغير أمزجتها؛ خاصة في مجتمعات الوفرة والغنى ومراكز الاستقطاب العالمي؛ كدول الخليج، وما كان من اللباس مرفوضاً بالأمس قد يغدو مقبولاً اجتماعياً؛ لتوارد الشباب على استخدامه واستحسانه وهم أغلبية المجتمع.. ما لم يكن من المحرَّمات الأصلية.
بعضهم يلبس أفخر الثياب للتجمُّعات، ويذهب للصلاة بثياب النوم، وهذه غفلة عن وظيفة اللباس؛ {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف:31)، ومَنْ نزلت عليه هذه الآية صلى مراتٍ حاسر الرأس؛ كما دلَّت عليه أحاديث صحاح، وذلك مقبول شرعاً وعرفاً في كثير من المجتمعات.
ليس من الفاضل أن أتميز كطالب علم أو داعية بعباءة في أطرافها “الزري” العريض المذهّب، وأطل عليهم عبر شاشة لأحدثهم عن الزهد في الدنيا!
وقد كتب عني أحدهم يوماً مقالاً ناقداً بهذا الخصوص فأغضبني، وقلت: هل انتهت قضايانا ولم يبق سوى بشت الداعية؟! ثم تقبّلت الفكرة بعد، واستذكرت أن العاقل يأخذ الحكمة ولا يضره من أين خرجت، ولا يتساءل عن الدوافع والنيات والمقاصد.. النصيحة مقبولة ما دامت وافقت صواباً بكل حال، وإذا كنت أزعم أني داعية فلأدرب الآخرين بفعلي على الأريحية والسعة وقبول الآخر وتجاوز التصنيف والمرادّات السطحية!
اللِّباس الجميل فضل ونعمة، والاعتدال فضيلة، ولذا جاء في حديثٍ حسن: «الْبَذَاذَةُ مِنَ الإِيمَانِ» (أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وصحَّحه الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” 10/368).
و”البَذَاذَةُ”: هي التّواضع في اللّباس ورثاثة الهيئة، وترك الزّينة، والرّضا بالدّون من الثّياب.
والشرع قد يأتي بخيارات متعددة تناسب اختلاف طبائع الناس وميولهم، فأبو ذر يختلف عن تميم الداري!
وقد اشترى تميم ثوباً بألف فكان يصلي فيه (رواه الطبراني بسندٍ صحيح).
ليس اللباس الخشن بمستحب، ولا هو لباس التقوى كما ظن قوم، ولا لبس الصوف بمشروع بخصوصه كما يظن بعض الصوفية.
والله يحب أن يُرى أثرُ نعمته على عبده، وهو لا يحب المسرفين، ولا يحب المبالغين في البحث عن النفيس، ولا لابسي الحرير والذهب من الرجال، ولا يحب المتشددين المحرِّمين بغير علم؛ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:32).
الحياء والحشمة للمرأة أوجب وألصق وأليق، واليوم نشكو من إسبال الرجال وتشمير النساء، وكشف المؤمنة البالغة لشعرها لغير ضرورة محرَّم ومعصية، وهو مثل مخالفات يرتكبها الرجال علانية ويخالفون فيها شريعة الله، وليس ذلك بكفر، ولا مدعاة للوصم بالفجور، ولا هو مبيح للاعتداء عليهم، والوقوع في أعراضهم، وإهدار حقوقهم.