طرحت الدبلوماسية الفرنسية، منذ سنة أو أكثر تقريباً، فكرة عقد مؤتمر دولي جديد في باريس حول القضية الفلسطينية، على شاكلة مؤتمر مدريد، أو أقل من مستواه قليلاً.
وظلّ الطرح محل أخذ وردّ، إلى أن حصل تقدّم في الأسابيع القليلة الماضية، نحو انعقاد المؤتمر، قبل أن تتطور الأمور فجأة وتعلن الدبلوماسية الفرنسية عن تأجيل المؤتمر.
كيف بدأت القصة؟!
قبل سنتين، ومع تعثّر مفاوضات التسوية في المنطقة، ورفض حكومة نتنياهو التجاوب مع إعادتها، ومع اتساع دائرة الاستيطان، وجد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس نفسه في دائرة الحرج والحصار السياسي، خاصة بعد تراجع الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية، واتساع الأزمات في المنطقة، فقرّر عرض مشاريع قرارات على مجلس الأمن الدولي تتعلق بإقامة دولة فلسطينية بسرعة ووقف الاستيطان، وإجبار الحكومة “الإسرائيلية” على التفاوض لزمن محدد.
الولايات المتحدة الأمريكية عطّلت هذه المشاريع داخل مجلس الأمن، لكن هذه الأفكار وجدت تأييداً لها من بعض الدول، فصوّتت الهيئة العامة للأم المتحدة معها، وبدأت عدة دول تقرّر الاعتراف بدولة فلسطين، مثل النرويج والسويد.
البرلمان الفرنسي قرّر أيضاً الاعتراف بدولة فلسطين، الأمر الذي أحرج الحكومة الفرنسية، فبدأت دبلوماسيتها تتحرك لعقد مؤتمر دولي، وتمّ هذا الأمر بمباركة واشنطن وقبول فلسطيني ورفض “إسرائيلي”، لكن بعد أن استجاب محمود عباس لشروط انعقاد هذا المؤتمر، ومنها وقف التوجه للأمم المتحدة والمحاكم الدولية لمقاضاة الاحتلال، بينما لم توقف الحكومة “الإسرائيلية” قرارات الاستيطان ولا عمليات الإرهاب بحق الفلسطينيين.
وتنص المبادرة الفرنسية على تفاوض فلسطيني “إسرائيلي” لمدة سنة أو 18 شهراً، بعدها يعلن الاتفاق الذي يتضمن إعلاناً للدولة الفلسطينية، والإقرار بالطابع اليهودي للدولة “الإسرائيلية” وحل قضية اللاجئين.
لكن الواضح أن المبادرة الفرنسية لم تكن إلا مناورة سياسية تهدف لإحباط الجهود الفلسطينية لانتزاع الحقوق أو لإجبار المجتمع الدولي على الاعتراف بدولة أو لتجميد الاستيطان، وذلك للأسباب التالية:
1- إن إطلاق فرنسا للمبادرة لم يكن مؤشراً قوياً على تبنٍّ أمريكي أو دعم نهائي من واشنطن لها.
2- إن العالم لا يلتفت اليوم للقضية الفلسطينية، وهناك أزمات سياسية وأمنية وحروب ونزاعات ضاغطة أكثر.
3- إن الحكومة “الإسرائيلية” الحالية غير مؤيدة وغير قادرة على تقديم أي تنازل للفلسطينيين، وإن المجتمع الدولي لن يضغط عليها، وإن الكيان الصهيوني يشعر اليوم بامتلاك عناصر قوة بسبب الأزمات في مصر وسورية ولبنان وكذلك الأزمات في المجتمع الفلسطيني.
4- إن محمود عباس في وضع صعب، وصراع على السلطة، وانقسام سياسي فلسطيني، وعدم قدرة على ضبط الشارع الفلسطيني في ظل انتفاضة القدس.
إن هذه الأسباب وغيرها مثل: الخلاف “الإسرائيلي” الفرنسي حول المؤتمر، واتخاذ فرنسا مواقف جاءت لصالح الفلسطينيين في منظمة “اليونسكو”، وعدم قناعة واشنطن بالمؤتمر، خاصة مع انتهاء عهد أوباما.
كل هذه الأسباب جعلت الدعوة لعقد مؤتمر باريس حدثاً في غير مكانه وزمانه، فجاء الموقف الفرنسي بالتأجيل ليمثل خسارة للجهود الفرنسية وسقوط لخيار محمود عباس في الرهان على دور دولي لإنقاذ التسوية.