من بين كل العبادات الإسلامية.. من بين كل صيغ التقرب إلى الله تعالى.. من بين كل أساليب التطهر الروحي.. يبرز الصوم جهداً متميزاً وسعياً خالصاً وكفاحاً صعباً لنيل رضا الله سبحانه وثوابه.
فما من عبادة يمارسها الإنسان إلا وهي تنطوي، بما ينفخ فيها الشيطان من أساليبه الماكرة، على هامش للرياء الذي تتداخل في جنباته النيات الحسنة بمقاصد السوء من حب الظهور والتباهي وكسب رضا الناس.
الصلاة التي يمكن أن يرائي بأدائها الإنسان، وأن ينفلت من إلزامها أنى شاء دون أن يلحظه أحد، الزكاة التي يمكن أن يدلس الإنسان في دفع مستحقاتها دون أن يلحظه أحد، الحج الذي يمكن أن يكون وسيلة لتغطية سلوك معوج بديكور خارجي جميل دون أن ينتبه إليه أحد، شهادة لا اله إلا الله التي اخترقت عبر التاريخ وجدان آلاف الناس بعشرات الممارسات الشركية ومئاتها وألوفها دون أن يكتشفها أحد.
لماذا «إلا الصيام»؟
هذا الجهد المكافح والملزم بالامتناع الصارم عن الطعام والشراب وكل صيغ السلوك الملتوية من أجل أن يمضي لتأدية مهمته الأساسية في كسب رضا الله، فلا يقدر الإنسان أن يدلس فيه أو يمارس غشاً من أي نوع كان؛ لأن عملاً كهذا سيخرجه من التزامه بمطالب الصيام.
من أجل ذلك ورد في الحديث القدسي أن كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لله تعالى وهو يجزي به، يقول الله عز وجل فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» (متفق عليه).
هكذا يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة بهذه الكلمات القاطعة التي تعد وتنذر في الوقت نفسه، ومن أجل ذلك شمر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عن سواعدهم وهم يستقبلون رمضان سنة بعد أخرى، وعلى مدار التاريخ؛ فامتنعوا عن الطعام والشراب، وتمحضوا لغسيل خبراتهم الروحية من كل ما من شأنه أن يمسها بسوء، واضعين نصب أعينهم خصوصية هذه العبادة وارتباطها المباشر بالله «إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به».
رمضان.. واستعادة الدور الحضاري
وبالانتقال من الخاص إلى العام، فإن هذه العبادة المتميزة المكافحة الصبورة كان يمكن أن تنفخ النار في جسد الأمة الإسلامية الممزقة، المتهالكة، المترعة بالشروخ والهزائم والأحزان، وأن تشد أواصرها وهي تمارس هذا الجهد المشترك من الصبر والتحمل، وأن تذكرها بأن صيامها هذا الذي يعدها الله سبحانه بأعلى درجات الثواب إن أحسنت القيام به؛ يجب أن يدفعها إلى المزيد من التوحد وتجاوز الخلافات والمضي قدماً لاستعادة دورها الحضاري الضائع.
فهذا الشهر الكريم الذي يطرق أبواب الأمة سنة بعد أخرى، يجب أن يعلمها الصبر والكفاح المتواصل والتمحض من أجل تحقيق الأهداف الكبرى لهذه الأمة التي غدت عبر القرون الأخيرة قصعة يولم عليها المولمون من مشارق الأرض ومغاربها كما تنبأ يوماً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سلوكيات خاطئة
ويدهش الإنسان وهو يرى بعض أولئك الذين يتحدثون عن حكمة الصيام كيف أنهم يضيقون عليه الخناق، فيجعلونه مجرد دافع للإحساس بمأساة الفقراء والجائعين، وكأننا كمسلمين لا بد أن نجوع لكي نحس بما يعانيه الآخرون دون التفات إلى نبض هذا الدين الذي يجعل من العدل الاجتماعي واحداً من مرتكزاته الكبرى على مستويي التشريع والتوجيه على السواء!
ويدهش الإنسان وهو يرى الشعوب الإسلامية تتسابق في مد موائد الطعام مساء كل يوم من أيام رمضان، لا يؤكل سوى العشر، وترمى الأعشار الأخرى في سلال المهملات، بينما الآلاف من المسحوقين يتضورون مسغبة وجوعاً!
ويدهش الإنسان كيف تصبح ملاهي الأمسيات الرمضانية والعروض التلفازية وكأنها هي المقصودة من جهد النهار فتنتشر تقاليدها وبدعها في مشارق الأرض ومغاربها انتشار النار في الهشيم!
التوازن النفسي والجسدي
ونحن نتحدث عن شهر الصيام هذا، لا بد أن نتذكر ذلك التوافق المدهش بين هدف كل عبادة في هذا الدين وتساوقها مع الحاجات والمطالب البيولوجية والنفسية والاجتماعية للإنسان؛ الصلاة، الحج، الزكاة، والصيام الذي طالما أكدت الدراسات الطبية والنفسية ضرورته لاستعادة السوية الطبيعية للإنسان في صحته وعافيته، في تكوينه النفسي، وعبر علاقاته الاجتماعية.
إن كل عبادة تنطوي على جملة من الترميزات التي تبدو لأول وهلة أن لا علاقة لها بهذا الذي نتحدث عنه، مجموعة من الرموز المنفصلة عن مطالب الإنسان الحيوية والتي يراد منها فقط الاستجابة لأمر الله سبحانه، ولكن بالإيغال في شرايين كل عبادة يتبين ذلك التوافق المدهش بين الرمز والمطلب البشري، بين الاستجابة لأمر الله والتحقق بالمطالب الجسدية والنفسية والاجتماعية على السواء، وتلك هي واحدة من معجزات هذا الدين.
إن الصيام عقد مقدس بين العبد وربه، وإنه يتطلب استجاشة أعمق نقطة في خلايا العقل والقلب والروح والوجدان من أجل أن يكون بحجم رمضان كما يريده الله ورسوله، لا كما اعتاده المقلدون.
«فإنه لي وأنا أجزي به»؛ لأنه – جل في علاه – يعلم ما يكلفه الصوم من مشقة وما يتطلبه من صبر، ليس فقط عن الطعام والشراب، وإنما عما اعتاد عليه الناس وأصبح جزءاً أساسياً من حياتهم اليومية عبر أحاديثهم ومعاملاتهم من رياء وغيبة وتنابز وغيرها من عشرات الممارسات الخاطئة التي يجيء التوقف عنها بقوة الإرادة الإيمانية، بمثابة إعلان للحرب على «الخطيئة» مهما ضؤلت ودقت، وهذا يتطلب جهداً فائقاً لن يكون جزاؤه إلا ذلك الذي يجيء من عند الله سبحانه، وما أعظمه من جزاء.
ومرة أخرى؛ فلو قدر لهذه الأمة أن تعرف كيف تتلقى هذه المنحة الكبرى، وهي تكافح الجوع والعطش والتطهر من الآثام، بأن «تتوحد» وتتجاوز كل صيغ الخلاف والتقاتل، وتمضي صوب تغيير واقعها البائس هذا صوب ما أراده لها الله الذي قال في أجيالها الأولى: إنها خير أمة أخرجت للناس؛ لكانت قد وضعت خطواتها على الطريق الصحيح.