– الحصار والتجويع والغلاء والخوف.. طقوس رمضانية تحت وطأة قصف ومعارك يومية
– “الفولكلور” الرمضاني الدمشقي حاضر في العواصم العربية والإسلامية وغائب في بلده دمشق
– الحصول على الماء لا يزال حلماً عند الكثير من أبناء الغوطة الشرقية
– موائد الإفطار.. ضرب من الخيال أن تجتمع عليها أسرة كاملة
يستقبل الشعب السوري شهر رمضان المبارك للمرة السادسة في ظل الثورة السورية، ولم يكن بحسبان السوريين؛ موالين لنظام “الأسد” أو معارضين له، أن تتحول سورية إلى ساحة حرب طويلة، وواحدة من أخطر بقاع الأرض، تختفي فيها أبسط مقومات الحياة والأمان.
شهر الخير عادة ما يحلّ على بلاد المسلمين ويحمل معه البهجة والسرور، ويستقبله المسلمون كلٌ حسب عاداته وتقاليده، فيصبغون هلال رمضان بطيفٍ من الألوان بما يعكس تنوع بلادهم ثقافياً واجتماعياً، وهكذا كانت سورية.. ولكن اللون الأحمر؛ لون الدم، هو الحاضر في سنيّ الثورة، ولعلّه أشد قتامة هذا العام من أعوام الثورة التي سبقته.
تميزت دمشق في تقاليدها وعاداتها الرمضانية على الحواضر العربية والإسلامية، لا سيما عادات أهل الشام العريقة، التي توارثوها عن أجدادهم، لتعكس روح التراث والأصالة والحب، من بينها عادات تكاد تندثر إلا في الشام!
طقوس وعادات.. مختفية!
مع دخول رمضان إلى سورية تعود مصطلحات لطالما يحنّ الناس إليها “المسحراتي، مدفع رمضان، العرقسوس، قمر الدين (عصير المشمش)، التمر الهندي”، ويعود المسحراتي بلباسه العربي التقليدي ليجوب أزقة وحارات الشام، بعباراته الساحرة وصوت طبلته “يا نايم وحد الدايم.. يا نايم وحد الله”، “قوموا على سحوركم.. جاء رمضان يزوركم”.
اليوم يعود “الفولكلور الرمضاني” إلى عواصم إسلامية عدّة تحاكي التراث الدمشقي، إلا دمشق صاحبة التراث غائبة عن فلكلورها وتراثها نظراً للدماء التي تراق على أرضها، المسحراتي يجوب عواصم عربية وإسلامية، يخاطب الناس بلسانه الشامي، ولكنه لا يجرؤ الدخول إلى أرضه التي ولد فيها، وأخذ تراثه منها.
حصار وتجويع
رمضان السوريين اليوم مختلف، واستعدادهم لاستقبال الشهر الكريم غير الذي عهدناهم عليه، عددٌ من المدن والبلدات السورية تقبع تحت حصار فرضه النظام السوري عليهم، لا يجدون ما يسد رمقهم، كالغوطة الشرقية، ومعضمية الشام، وجنوب دمشق، ومخيم فلسطين، والزبداني، ومضايا، علاوة عن مئات الآلاف من السوريين النازحين إلى المخيمات العشوائية على الشريط الحدودي للبلدان المجاورة.
ومن نجا من الحصار والتجويع وقع تحت وطأة قصفٍ ومعارك يومية، تسلب منه أبسط مقومات الحياة، هذا إن لم تسلب منه روحه، أو تفجعه بعزيز، فليس نهارهم معاشاً، ولا ليلهم سباتاً، ومن نجا من نظام الأسد وقع ضحية تحت حكم تنظيم الدولة “داعش”، أو اقتتال داخلي بين فصائل المعارضة.
وما يزيد من ضنك السوريين في شهرهم هذا، أنهم باتوا أمام مفترق طرق، فإما مناطق سيطرة النظام حيث القبضة الأمنية والاعتقالات التعسفية وغلاء المعيشة، أو مناطق سيطرة المعارضة عرضة للبراميل المتفجرة أو نيران صديقة ناتجة عن اقتتال داخلي، أو مناطق سيطرة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) حيث “السكين” المصلتة على رقاب الشعب، أو الهجرة إلى الشتات وكما يقال: “الغربة كربة”.
استقبلت سورية وأهلها رمضان، ولكن على غير عاداتهم السابقة، مع حلول منتصف شهر شعبان بدأت المطابخ الخيرية، والهيئات الإغاثية تطلق حملاتها لإفطار صائم، وإطعام جائع، وجهزّت المؤسسات “طرود الخير” لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، واللافت أن غالبية أبناء المناطق المحررة في سورية هم من هذه الطبقة.
ليس الجوع وحده يشغل أبناء المناطق المحررة في سورية، فانعدام الكهرباء عن معظم مناطق سيطرة المعارضة منذ ما يزيد على ثلاث سنوات يضاعف معاناتهم، لا سيما ارتفاع درجات الحرارة في هذه الأيام، وطول ساعات الصيام.
فالغوطة الشرقية في ريف دمشق تعيش في حصار بلا كهرباء ولا وقود منذ ما يزيد على ثلاث سنوات؛ ما دفع أهلها إلى اللجوء إلى بدائل تخفف معاناتهم، ومع كل مساعيهم والبدائل التي أوجدوها خلال الأعوام التي خلت، لا تزال إحدى أهم أمنياتهم في رمضان تحديداً الحصول على الماء والشراب البارد، ولكن هذه الأمنية تتحقق لقلة قليلة في الغوطة، وتبقى حلماً عند الكثير من أبنائها.
رصدت “المجتمع” مزيجاً من آراء الشارع السوري في عدد من المحافظات السورية، حول استقبالهم لشهر رمضان المبارك، كيف كانوا؟ وأين صاروا في ظل الصراع الذي تعيشه بلادهم؟
في الحسكة.. صيام مضاعف
محافظة الحسكة شمالي سورية، من أخصب الأراضي الزراعية في سورية، يقول أحد أبنائها لـ “المجتمع”: كان رمضان أروع أيام السنة، نعيش أيام رمضان قبل قدومه، نأخذ سجّاد المساجد، ونوزعه على البيوت لتنظيفه، ومن عادات أهالي الحسكة إقامة إفطار جماعي في بيت أحد عائلات القرية، ويتبادل الأهالي أطباق الطعام، ويتسابقون إلى ضيافة الغريب في منازلهم.
صيام أبناء الحسكة أصبح مضاعفاً لا سيما في السنوات الأخيرة، حيث يوافق شهر رمضان أيام الصيف، فأهل الحسكة يعملون في الزراعة، يحصدون ويسقون في حرّ النهار، وهو ما يميز سحورهم عن باقي المحافظات السورية كدمشق، فمائدة السحور تحتوي على السمن العربي، والتمر، واللبن.
والحسكة اليوم تشهد وجود ثلاث قوى متصارعة؛ “تنظيم الدولة الإسلامية”، “حدات حماية الشعب الكردية”، قوات النظام السوري، ويعاني أهلها من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والأراضي الزراعية تحولت إلى أرض للمعارك.
في الرقة.. “داعش” أفسد النسيج الاجتماعي
وعلى ضفاف الفرات محافظة الرقة، أو “رقة الرشيد”، حيث جعلها الخليفة العباسي هارون الرشيد عاصمة له، لتصبح في عهده مركزاً علمياً وثقافياً مهماً، واليوم تعيش الرقة تحت حكم الخليفة، خليفة تنظيم “داعش”، لتعيش أسوأ حالاتها، سكين مصلتة على رقاب أهلها، والفقر والجوع يقتحم بيوتها، وطيران التحالف الدولي لا يغادر سماءها بغية قصف تنظيم “داعش”، ولكن أهلها هم الضحية، تعدد القاتل والضحية وحدهم.
“لا تسأل أي رقاوي لأن دموعه ستجيبك” بهذه العبارة بدأ شاب “رقاوي” كلامه لـ “المجتمع”، فشهر رمضان في الرقة هو شهر اجتماع الأهل والأحبة، المسافر يعود للرقة ليقضي شهره الكريم بين أهله وأحبابه.
“والآن يستحيل أن تجد أسرة رقاوية كاملة مجتمعة”، قالها ابن الرقة بتحدٍّ، ففي كل عائلة شهيد أو معتقل، أو مشرد أو ملاحق، أو مجند إجبارياً في صفوف “تنظيم الدولة”، لذلك أن تجد أسرة رقاوية مجتمعة على مائدة واحدة هذا ضرب من الخيال، ويضيف ابن الرقة: لا أبالغ إن قلت: إن تنظيم “داعش” أفسد النسيج الاجتماعي لأبناء الرقة.
درعا.. الثورة
أما في محافظة درعا جنوبي سورية، أو ما يطلق عليها سهول حوران، يحلّ رمضان عليها، ويصّور النسيج الاجتماعي بأبهى صوره، قبل الإفطار بدقائق يتبادل الجيران أطباق الطعام، وتكثر الولائم بين الناس، كما أن مساجد درعا تعمر في صلاتي الفجر والتراويح وكأنهم حضروا لأداء صلاة الجمعة لكثرتهم.
ولكن رمضان حوران لهذا العام مغاير لما مضى، تعيش سهول حوران اقتتالاً دامياً بين فصائل المعارضة فيها، بعد أن كانت نموذجاً لقوى المعارضة على الأرض السورية، لا سيما أنها أولى المحافظات التي خرجت ضد النظام السوري، وبسط الثوار سيطرتهم على معظم أرضها خلال سنوات الثورة، ولكنهم اليوم يخسرون ما كسبوه لصالح النظام أو فصائل يقال: إنها تتبع لتنظيم “داعش”.
في أيام رمضان الأخيرة، يستعد السوريون لطقوس تحضير حلوى العيد، إذ إن سورية اشتهرت بصناعة الحلويات، وتنوعت أصنافها، واشتهرت كل محافظة بصنف يميزها عن غيرها، كحلاوة الجبن الحمصية، و الشعيبيات الإدلبية، والبقلاوة الدمشقية، ولكن هذا الطقس يكاد يندثر في ظروف الحرب التي يعيشونها.
حلّ شهر الخير على أهل الشام حاملاً معه نسائمه ولطائفه، ليرسم معالم الرضا على الوجوه البائسة، علّه يحمل معه ما يخفف معاناتهم، ويوقف نزيف دمائهم، آملين انتهاء مرحلة دامية، وعودة الأمن والأمن للسوريين.
وإنهاء القتل والدماء في سورية يحتّم على المجتمع الدولي، ممثلاً في الدول الكبرى، والهيئات والمنظمات الحقوقية، أن تمارس مهامها بفاعلية، بعيداً عن سياسات الشجب والاستنكار، فإفلات المجرم من العقاب في مجتمع يسوق لحقوق الإنسان وحرية التعبير وصمة عار على جبين الإنسانية.