كيف سجد الملائكة النورانيون للمخلوق الطيني؟
شيء عجاب أن يكون سر تفوق آدم هو النفخة العلوية الملائكية المعجونة بالطين.. وأن تسجد له الملائكة؛ التي هي محض نور لم يلامسه أثرٌ من طين الأرض وغبارها!
إنه تفوق الأبعاد المتعددة والمتداخلة والمتناقضة أحياناً، على البُعد الواحد والنمط المبرمج.
تفوق الإرادة الحرة المسؤولة المعتمدة على المعرفة والعقل والتعلم والتعليم والاختيار، وإن كان هذا التخيير والتكليف قد يؤول إلى عثرات وفترات وهفوات.. فهذا المسجود له سرعان ما اقترف حوب الأكل من الشجرة، واتباع غواية الشيطان، وسرعان ما تاب وأناب!
تفوق واقعية التدافع والحركة والألم والسعي نحو الأفضل والتجربة والمحاولة والخطأ والتصحيح، على نمط القسر والجبر والتسيير!
وهو درس في التربية والدعوة والسياسة..
امتزاج النقيضين سرٌ إلهي بديع، وحكمة ربانية بالغة.
والتعايش المتوازن الرشيد بين المختلفات من أسرار الإبداعات..
إنه سجود تكريم لا سجود عبادة.
فهو شبيه بقوله تعالى في شأن يوسف: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} (100:يوسف).
اتفاق وإطباق علماء الملة أن العبادة لا تكون إلا لله، والسجود على وجه العبادة لا يكون لملك مقرَّب ولا نبي مرسل، بل هو لله وحده.
هل كان آدم قبلةً لهم في السجود؟
لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: اسجدوا إلى آدم.
والسياق استعمل لفظ: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} (34:البقرة)، في جميع المواضع التي وردت فيها القصة.
هل كان آدم إماماً لهم وهم يسجدون وراءه؟
هذا لا يساعده السياق، وهو قول متكلّف.
هل كان السجود بمعنى الانحناء؟
يُشكل على هذا قوله سبحانه: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (29:الحجر).
والوقوع ظاهره الخرور إلى الأرض.
هل السجود تعبيرٌ عن توكيل الملائكة بشأن آدم والقيام على أمره وأمر ذريته وحياتهم ومماتهم؟
في التنزيل بيان تكليف الملائكة بأمر نفخ الروح، ونزع الروح، وأمور الرحمة، وأمور العذاب، وما شاء الله من أمر كتابة الأعمال والأحوال والحسنات والسيئات..
وهذا من آثار السجود ودلالاته، ولا يعني هذا قصر معنى السجود عليه.
يشير عبد الصبور شاهين في (أبي آدم) إلى أن سجود الملائكة يعني تكليفهم بحياطة الحياة الإنسانية ابتداءً من آدم، وهو تكليف ماضٍ إلى يوم القيامة؛ تتولى فيه الملائكة المحافظة على الإنسان وإلهامه الخير ووعده به، في مقابل عمل إبليس وذريته في الإغواء والوعد بالشر والأماني الكاذبة..
وتكليف الملائكة بذلك حق ثابت، ولكن لا يحسن قصر معنى السجود عليه، فثمَّ موقف غيبي أُمر الملائكة فيه بالسجود لآدم ففعلوا وامتنع إبليس، وهو سجود حقيقي يناسب خلقة الملائكة وما جبلوا عليه مما يعلمه الله ولا نعلمه نحن ولا نستطيع تكييفه.
فللسجود أوضاع وهيئات تتفاوت بتفاوت المخلوقات..
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (6:الرحمن).
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ..} (18:الحـج)
{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ..} (49:النحل).
وفي السُّنة الصحيحة سجود الشمس تحت العرش لا ينكر الناس من أمرها شيئاً، رواه مسلم من حديث أبي ذر.
قال القرطبي:
وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم بوضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقى على أصل اللغة من التذلل والانقياد، أي: اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل، والله أعلم.
والأقرب أن ما أُمروا به هو فعل زائدٌ على مجرد الخضوع والإقرار بالفضل، مناسب للمقام ولهم، أُمروا بأدائه إظهاراً لفضل آدم وذريته، وإعلاناً لحقبة جديدة يكون له ولعقبه فيها الخلافة في الأرض.
واللائق بأمور الغيب إمضاؤها على ظاهرها دون إيغال في تصويرها أو تصوُّرها أو تفصيلها أو تأويلها؛ رعاية لحرمة النصوص، وتقديراً لطبيعة (تصميم) العقل البشري الذي يُبدع في الكشف والابتكار وينجح في ميدان المادة، ويُخفق حين يتحرك في ما وراء الطبيعة، وهو سر تفوق آدم وعلو مقامه!
وهل كل الملائكة أُمروا بالسجود؟
كل الملائكة الذين أُمروا بالسجود سجدوا أجمعين بلا استثناء: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (73:ص).
وهل كان الأمر بالسجود موجَّهاً لجميع الملائكة أم لبعضهم ممن هم موكلون بالحياة الآدمية من نفخ وقبض وحفظ ووو؟..
ظاهر السياق أن عامة الملائكة أُمروا بالسجود فسجدوا، من ملائكة الأرض وملائكة السماء، وأشراف الملائكة؛ كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل..
السجود طواعية للآمر المتفرِّد جل وتعالى، وعبر الرسالات كلها كان السجود على الجبهة من أعظم مظاهر الخضوع والدينونة لله، و« إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِى يَقُولُ يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِىَ النَّارُ » (رواه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ).
في مطلع سورة العلق الأمر بالقراءة والتعلُّم بالقلم، وفي ختامها الأمر بالسجود والاقتراب: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ..}، {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (العلق).
العودة إلى الجنة تمر عبر بوابة السجود.. فعَنْ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِىُّ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِى « سَلْ ». فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ. قَالَ « أَوَغَيْرَ ذَلِكَ ». قُلْتُ هُوَ ذَاكَ. قَالَ « فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ » (رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والنسائى).
ويوم القيامة يُدعى الناس للسجود فيسجد المؤمنون، ويحاول غيرهم فلا يستطيعون، وتأبى ظهورهم أن تنحني لله.. وهي التي طالما انحنت لغيره.