انتشار المسيحية في مصر
يمكن القول اختصاراً: إن مصر دخلت تحت الحكم الروماني سنة 30 ق. م، على أنها واحدة من أهم موارد القمح بالنسبة لروما، وكانت الديانة المصرية القديمة تشع في كل حوض البحر الأبيض المتوسط، وكان يوجد معبد للإلهة إيزيس في منتصف باريس بفرنسا، ولأهمية مصر كدولة، كان الإمبراطور شخصياً هو الذي يختار الحاكم بنفسه وليس مجلس الشيوخ، وقد اهتم الرومان بجميع الآلهة المصرية القديمة والعبادات المصرية واستحوذوا على كثير من مفرداتها وأدخلوها عقائدهم وفلسفتهم، وتكفي الإشارة إلى الإله تحوت الذي حوله اليونان إلى “هرمس – تحوت – تريمچيست”، وبعد فترة أسقطوا “تحوت”، ليبدو إلههم من اختراع حضارتهم! وما أكثر ما أخذ عن المصري القديم في المسيحية لتسهيل قبولها من بعض المصريين.
واندلعت عدة ثورات شعبية فيما بين عامي 169 و172م بسبب “طاعون أنطونين” وغيره، وقام الرومان بقمعها، وفي سنة 175م قام القائد آفيديوس كاسيوس، الذي قاد القوات الرومانية لقمع الثورة الشعبية بتعيين نفسه إمبراطوراً، واعترفت به مصر وسورية، لكن روما انقلبت عليه بعد زيارة خاطفة للإمبراطور مارك أوريليوس للإسكندرية.
فرض المسيحية ديانة وحيدة
وواصل الرومان بناء المعابد التي كان قد بدأها البطالمة، ومنها مدينة أنتينوبوليس، وكشك تراچان في جزيرة فيلة، ومعبد دندرة الذي أضاف إليه أغسطس عدة أجزاء تسمى “مميزي”، وفي سنة 381م، السنة التي أصدر فيها تيودوز الأول قرار فرض المسيحية ديانة وحيدة لكافة أنحاء الإمبراطورية، بدأت تغيرات الملامح الدينية بالتدريج، بينما انطلق المسيحيون في هدم ما لم يُهدم من المعابد وطمس معالم ما لم يستطيعوا هدمه وتغطيته برسومات مسيحية، مثلما حدث في معبد أبو عودة والأقصر وغيرها.
أما عن اضطهاد المسيحيين، فلا أشير على سبيل المثال إلا إلى أشهر ثلاث حملات بسبب عنفها وشدة بطشها: حملة ديسيوس فيما بين عامي 249 – 251م، وحملة فالريان عام 257م الذي أمر بمنع تقديم الأضاحي وعدم التجمع في دهاليز المقابر وسراديبها، وحملة ديوكليسيان أواخر عام 302 وأوائل عام 303م، وتعد من أعنف الحملات.
لذلك يقول برنارد لوجان: إنه منذ اضطهاد ديوكليسيان عام 303م، يضع المسيحيون الشرقيون بداية الكنيسة القبطية عام 284م، (“تاريخ أفريقيا من الصول حتى يومنا هذا” 2009م). أي أن المسيحية لم تبدأ بشائر استتباب أمرها إلا في أواخر القرن الرابع.
وحينما نطالع في “الموسوعة القبطية” الصادرة بالفرنسية بحثاً بعنوان “الأقباط أيام الإمبراطورية الرومانية” بقلم صموئيل ماتياس، والعنوان الفرعي له “انتشار المسيحية في مصر”، ويبدأ المقال بجملة تقول:
“ابتداء من أنانيوس، أول خليفة للقديس مرقس وحتى ديمتريوس، البطريرك الثاني عشر للإسكندرية، ظلت المسيحية تنتشر لمدة قرنين، لتنتهي إلى تنصير الدولة”.. وتوقفت عن القراءة!
هكذا، بكل بساطة، تم تنصير الدولة كلها، التي هي مصر، منذ القرن الثاني! ويا لها من فرية، إذ حتى القرن الرابع كانت المسيحية تحارب رسمياً من الإمبراطور الروماني، فكيف لها في زمن ذلك الاحتلال الذي يحاربها، أن يقوم المسيحيون بتنصير الدولة التي يعتمد عليها الرومان في خبزهم؟ بل ظل الحاكم الروماني المحلي يحارب المسيحيين في مصر، لِما كانوا يسببونه من قلاقل حتى مطلع القرن السابع ومجيء الفتح الإسلامي، لذلك استقبلوا المسلمين على أنهم مخلصوهم من أهوال الحاكم.. وحين تبينوا كيف أن المسلمين يعبدون الله ولا يشركون به أحداً دخل المسيحيون الرافضون لتأليه المسيح، التابعون لأريوس وغيره من رافضي الشرك بالله، دخلوا الإسلام طواعية واقتناعاً، لكن يبدو، على مر الزمن، أن سمة اختلاق القلاقل وحب التسلط لم تخبُ؛ لذلك قال عنهم الشاعر اليوناني بللاداس ساخراً من “أولئك المقملين المقززين الذين انقضوا على كل ما يرمز إلى حضارة الفكر والعلوم ليدمروه”:
“لقد ملّت الآلهة منّا، نحن اليونان، وكل شيء يغوص أكثر يوماً بعد يوم (…).
“حقاً، تَوقع العواقب الضارية، فالأسوأ، القادم، سيأتي دون أن يتم الإعلان عنه”.