من كل حدَب وصوب تأتي الجموع الغفيرة إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج استجابة لقول الله تعالى: “وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ” سورة آل عمران /97.
ومنذ أن شَرُفت البسيطة بإشراقات نور الإسلام، لا تنقطع هذه الوفود عن اجتياز المسافات الشاسعة وتجشُّم الصعاب الشاقةلأداء هذه الفريضة، والالتقاء على صعيد هذه البقاع في مشاهد باهرة يستطيع المحدق فيها أن يلتقط العديد من الرموز التي يمكن أن تكون منطلقًا جديدًا وميلادًا لأمة لا تخلو بقعة في قارات العالم من وجودهم فيها.
لعل أبرزَ هذه الرموز وأكثرها حاجة في أيامنا تلك رمزيةُ الوحدة الكبرى والتي تتجلى في كثير من مشاهد الحج والتي لها من الدلالات ما يجعلنا نتأمل في ظلالها التي غابت عن الأفهام، فالجميع قبل بدء الرحلة قد اتحد مقصده في أداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، والجميع قد تخلى عن شعاراته القومية والحزبية والطائفية وردد قولا واحدًا: اللهم إني قصدت الحج فيسِّره لي. وتتوالى مشاهد الوحدة بعد ذلك في اللباس والتلبية والالتزام بمواقيت هذه الشعيرةومناسكها.وقد أكد القرآن الكريم على هذه الوحدة في قوله تعالى:”وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ” سورة المؤمنون/52.
غير أن هذه الوحدة التي أسعدت الناظرين وأبهرتهم، وتوجس خيفةً منها الآخرون و ربما أزعجتهم من قبل، سرعان ما تتلاشى وتصبح أثرًا بعد عين، ليعود الجميع إلى ما سبق أن كانوا عليه.وفي ذلك إفراغ لهذه الشعيرة من مضامينها الحقيقية وإبعاد لها عن مقاصدها الكبرى، ومعانيها الجليلة. فلماذا لايكون الحج بحقٍ مؤتمر المسلمين الأكبر كما يتردد في كثير وسائل الإعلام آنذاك، بدلا من المؤتمرات التي تقعد ليل نهار ويُدعى إليها المتخصصون ثم تُرمى بحوثهم وأوراقهم في الخزائن دون أن تطرق أبواب المسؤولين، أو تمتد إليها الأيادي لتفعيلها على أرض الواقع.
كم من مسؤول من الكبار ومن الصغار في عالمنا المترامي الأطراف يمتطي صهوة جواده قاصدًا الحج، فهَلَّا تلاقي هؤلاء هناك وتصافت النفوس وخَلُصت النوايا من أجل العمل لخير هذا العالم الإسلامي الكبير؟ كم من مسؤول يمكنه أن يتباحث مع أقرانه في طرح حلول مشتركة للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يفخر عالمنا بضمه لأكبر وأفظع وأسوأ ما عرفها بنو البشر؟
إلى متى يصمُّ هؤلاء آذانهم عن آهات الجرحى وبكاء الثكالى وعويل الأطفال اليتامى المشردين في بقاع كثيرة من عالمنا دون أن يتحرك لهم ساكن؟ ويكتفون بإصدار تصريحات التنديد والشجب والاستنكار.
كيف لهم أن ينعموا بالإقامات في الأجنحة الفندقية الفخمة ويتنقلون بالسيارات الفارهة وشعوبهم تئن تحت وطأة الألم والجوع والفقر والمرض والأمية والعراء؟!
إلى متى يظل هؤلاء مصابون بالعمى الاختياري الذي أرادوه لأنفسهم؟ ألم يدر بخَلَدِ أحدهم أن هؤلاء من بني جلدته، وهم أمانة معلقة في رقبته؟ أين اليمينُالتي أداها برحابة شِدْقَيه على القيام بالمسؤولية تجاههم محترما القانون والدستور؟ لقد حنث في هذا اليمين، بل إنه ليحنث فيها كل يوم بل وكل ساعة!! وخان الوطن خيانة عظمى، ثم تكون النتيجة أن يترك هؤلاء بلا مساءلة، بل ويكرَّمون عند تركهم لمناصبهم؛ لينالوا مناصب شرفية يستكملون فيهارحلة ملء الجيوب والبطون، وهم يعلمون تماما أنما يأكلون في بطونهم نارًا.
وإني لأتساءل لو أن هذا التجمع البشري العظيم المتنوع في كل شيء، الثري بما يمتلك من ثرواتاقتصادية وبشرية، و المتوحد على شرعة الإسلام، لو أن هذا التجمع السنوي ـــــ الذي ما تأخر يوما عن موعده منذ خمسة عشر قرنا ــــ كان لأمة أخرى ماذا عساها أن تفعل فيه؟ إنَّ أقل ما يمكن أن يقال هنا إنها لن تخرج منه خاوية اليدين، ولما رضيت أن تعود منه بخفيّ حنين.إنها لن تترك قضية من القضايا التي تتعلق بحاضرها ومستقبلها إلا وتطرحها على بساط البحث؟ وإذا ما أسعفها الوقت أمكنها تنظيم مؤتمرات أخري في بقية شهور السنة، ثم يأتي المؤتمر العام بروحانياته وشموليته لمناقشة ما أنجز و الوقوف على عللالإخفاقات في مالم ينجز؟
ولو أن هذا التجمع كان لأمة أخرى لفعَّلت هذه الأمم من أجهزتها ومنظماتها وهيئاتها الرسمية والتطوعية التي تكتظ بالموظفين ذوي الرواتب الكبرى أكثر وأنشط مما هي عليه الآن، كما هو دأبالاتحادات والمنظمات الأخرى التي تغطي أخبار أنشطتهافي إعلامنا على ما لدينا من إرث ثقيل من المشاكل والأزمات.
ولو أن هذا التجمع لأمة أخرى لما تركت أبناءها يصارعون الموت في لجج البحار وظلماتها؛ هروبًا من الموت والفقر واليُتم وغياهب السجون والمعتقلات إلى مصير مجهول، تحجبه عنهم مخيلاتهم وأمانيهم في العيش في أمن وسلام ولقمة عيش بعزة نفس وكرامة.
أليس من الخزي والعار أن نتباهى بما لدينا من ثروات وموارد اقتصادية هائلة يفتقر إليها أي تجمع بشري مماثل، وتخرج التقارير عن المنظمات الدولية بأن أعلى نسب للفقر والبطالة والأمية تقع في عالمنا، ونحن نقرأ في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ” مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ. “رَوَاهُالطَّبَرَانِيُّ.
أليس من الخزي والعار ــــ بعد أن ملأ الإبداع العلمي لهذه الأمة أسماع الدنيا، وكانت معاهدها ومكتباتها قبلة النور الوحيدة في هذا العالم فشيدت حضارة من أعظم ما عرفت البشرية من حضارات ــــــــ أن معظم من يصنفون في دول العالم الثالث يشكل العرب والمسلمون معظمهم،بل يمكن القطع بالقول لو هناك درجة أخري أدني مندرجة العالم الثالث لحجزنا فيهامعظمالمقاعد بكل جدارة.
وحدث ولا حرج عن المستويات المتردية في التعليم بشتى مراحله، وشيوع الجهل والأمية حتى بين الحاصلين على شهادات دراسية، مما جعل بعض الهيئاتالعلميةتخرج دولا كثيرة من عالمنا في تصنيفاتها لمستويات النظم التعليمية، وترمي بالكثير من جامعاتناخارج نطاق تصنيفاتها للجامعاتذات الجودة.
ولو أنَّ لغة أخرى غير العربية هي لسان العبادات في هذا التجمع، وفي كل بقعة يدين أهلها بالإسلام، تُرى ما الذي يمكن أن يقدمه أصحاب هذا اللغة الأصليون للشعوب التي تدين بالإسلام ولغيرهم من الملل الأخرى؟ و إلىإي شأوٍ عظيم يمكن أن تبلغ هذه اللغة بين لغات البشر؟
إن لغة هي العربية كانت وعاءً للوحي، ولم تعجز عن استيعاب مصطلحات العلوم والفنون قرونا ـــ ولن تعجز ــــ جديرة أن تبلغ من الذيوع والانتشار مدى يليق بها وبمكانتها، ولزاحمت الكثير من اللغات الأخرى في عقر دارها، و لخرجت منتصرة من أي معركة ثقافية تخوضها، ولَتغنى بها أبناؤها في كل صقع وواد فخرًا واعتزازا، ولَصدحت بها منابر الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، ولما سمحوا للُكْنَة والعُجمة أن تلوِّث ألسنتهم وفكرهم.
ولو أن أمة وعت رسالتها كما أراد لها كتابها المعجز لكانت معول بناء وحاجز صد أمام كل من يريد أن يهدم ليس في وطنها فقط بل وفي العالم أجمع، ولحافظت على منجزاتها الحضارية التي لا تزالت شاهدت على حضور الوعي الحضاري عن السلف، وغيابه عند الخلف.
فهل آن لنا أن نعي معاني هذه الوحدة الكبرى ودلالاتها الغائبة في كل منسك من المناسك في شعيرة الحج؟ وإلى متى سنظل قابعين في عالم التيه!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وباحث مصري.