قصة تستحق أن تُقرأ، معسكر (أوشفيتيز) في بولندا؛ الذي بناه النازيون أثناء احتلالهم، ووضعوا فيه اليهود من أنحاء أوروبا إضافة إلى 150 ألف بولندي و80 ألف من الرومان السوفييت والجنسيات الأخرى، وقتل في هذا المعسكر ما لا يقل عن مليون ومائة ألف شخص بطريقة بشعة، حسب تقديرات بعض المؤرخين..
أحد المسؤولين عن المعسكر آنذاك قال: قتل هذا العدد ساعدنا على توفير مليون علبة مربى!
تضاءلت حظوظ الدكتور فرانكل في النجاة بعد هلاك أسرته، وذهاب كل ما يملكه أدراج الرياح.
تحطَّمت كل قيمه ليعاني الجوع والبرد والعري والقسوة، وفي كل لحظة كان يتوقع سماع اسمه ليذهب للموت، لم يكن لديه ما يفقده عدا حياته البائسة.
خيط رفيع تشبث به حتى في أقسى اللحظات كان سبباً في نجاته وخروجه من السجن، بل وخلود اسمه كأحد المنظرين في مجال التحليل النفسي والعلاج!
لقد أصبح الدكتور فرانكل زعيماً لـ(مدرسة فيينا للعلاج النفسي) العالمية، وتداولت الأوساط العلمية كتابه (الإنسان يبحث عن معنى)، وهو مترجم إلى العربية.
تحدَّث عن: “السجين / الرقم”؛ حيث يُعطى الضعيف صابونة بيده لإيهامه أنه يذهب للحمام بينما يساق لفرن الغاز وتنتهي إنسانيته بأن تكون دخاناً ينبعث للفضاء وتذروه الرياح، أما القوي فيُعزل للعمل.
تحدَّث عن مبادئ العلاج بالمعنى؛ فحين يكون للمرء هدف يعيش له يكون أقدر على مقاومة التعذيب والضغوط مهما كانت بشاعتها.
الشعور بالعائلة، الحنين إلى الحب والزوجة، الارتباط بجماعة أو أصدقاء، الموهبة، العطاء ومساعدة الآخرين، الذكريات، الحلم وتخيل مستقبل أجمل..
أحياناً الحرمان بأي صورة كان يؤدي إلى إحساس مضاعف بالجمال والمتعة.
وبالنسبة لي (يقول): فإن مصادرة مخطوط لكتابي كان في طريقه للنشر عند اعتقالي واهتمامي بإعادة كتابته هو ما ساعدني على البقاء وسط أهوال السجن.
كان يتمثَّل حكمة نيتشه: (من عنده سبب ليعيش من أجله فهو غالباً يستطيع أن يتحمل في سبيله بأي شكل من الأشكال).
تحدَّث عن التسامي بالذات أو تجاوز الذات، فالسعادة ليست غاية لسعي الإنسان ولكنها نتيجة وأثر لتحقيق الهدف وبلوغ الغاية، فمعنى الإنسان هو ما يضيفه إلى العالم والحياة، و(الإنسان يعتبر حياته جوفاء بدون معنى فهو ليس شقياً فحسب ولكنه يكاد أن يكون غير صالح لأن يعيش) كما يقول آينشتاين.
ماذا كان يهم آدم من الخلود؟
إنه ليس العيش المجرد بزيادة عدد الأيام والليالي، فالمرء يهرم ويمل وتضعف قواه ويستثقل الحياة ويستبطئ الموت،كما يقول زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ!
الخلود الذي طمع فيه آدم أبعد من ذلك، هو خلود التأثير، وتعاهد الذرية، وديمومة البناء والعطاء، واتساع التجربة، والاعتبار من مرور الليل والنهار، وهذا تحقق له في واقع الأمر، أو أكثره.
ماذا كان يهمه من الملك العريض الذي لا يبلى؟ إلا الأثر الطيب والعدل والسيرة الحسنة في الرعية، والحيلولة دون الانحراف والظلم ومجاراة الشهوات.
لم يكن آدم طيناً صرفاً لتكون الأرض وحدها منتهى طموحه، كان نفخة علوية روحانية جعلت للطين قيمة جديدة ومعنى مختلفاً فأصبح جسده في الأرض وهمته في السماء:
وكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا!
من تجربة شخصية فالعمق الروحي، والمناجاة مع الله، والإحساس بالقرب والرعاية: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (48:الطور)، هو أعظم معنى؛ التعبئة الروحية قيمة ضرورية للصحة النفسية وطول العمر والنجاح والمقاومة.
سحق إرادتك من قبل الآخرين لا يلغي قدرتك على اتخاذ موقف في كل ظرف.
اختيارك للطريقة التي تتفاعل فيها مع ما يفعله الآخرون بك هو ما تبقّى من حريتك، إنها (حرية روحية) حتى في الظروف المريعة، وعندما تبلغ القلوب الحناجر.
يستطيع ذلك عدد قليل من الناس ولكنهم ملهمون ومؤثرون.
أهم المعارك الإنسانية تقع في الثواني التي تفصل ما بين فعل الآخرين ضدك وبين ردة فعلك تجاههم.
هنا تبرز قيمة الإنسان :
– يمتاز الإنسان بأنه يجعل من ذاته ميداناً للبحث، والتأمل، والدراسة، والتجريب.
الإنسان وحده هو المدرك لمعنى الحياة والوجود ومفهوم الموت والفناء، وأسرار الخلود.
سمو الإنسان هو في إدراك محدوديته وعجزه، وحسن توظيف ذلك: (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) (رواه البخاري).
– مشاعر الإنسان ليست غرائز محضة كالحيوانات بل مشاعر راقية، فالخوف من الله وتأنيب الضمير عند الخطأ، والخوف على الآخرين المحرومين والمظلومين والمعذبين هو تسامٍ إنساني صرف.
والحب ليس غريزة الحيوان وسلوكه الجنسي البدائي، هو سمو روحاني ورقي بالنفس.
الصبر والمصابرة، والقدرة على التكيُّف مع الأوضاع والمتغيرات، والتعلم السريع والدائم.. معانٍ زود الله بها الإنسان الأول وذريته.
حديث (تخلَّقوا بأخلاق الله) ليس بثابت، ولكن يقول ابن القيم: (من تعلّق بصفة من صفات الرب أدخلته تلك الصفة عليه وأوصلته إليه، والرب هو الصبور، بل لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، وقد قيل: إن الله تعالى أوحى إلى داوود: (تخلّق بأخلاقي فإن من أخلاقي أني أنا الصبور)، والرب تعالى يحب أسماءه وصفاته ويحب مقتضاها وظهور آثارها في العبد، فإنه جميل يحب الجمال، عفو يحب أهل العفو، كريم يحب أهل الكرم، عليم يحب أهل العلم، وتر يحب أهل الوتر، قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، صبور يحب الصابرين، شكور يحب الشاكرين..) (عدة الصابرين، ص: 85).
وقال ابن تيمية: (من أسمائه وصفاته ما يحمد العبد على الاتصاف به؛ كالعلم والرحمة والحكمة.. ومنها ما يذم على الاتصاف به؛ كالإلهية والتجبر والتكبر).
أي معنى للتسامي وتجاوز الألم والتفوق على الذات وتحقيق قيمة الوجود الإنساني أعظم من الشعور بأنك تقترب من الله بالتحقق بالأسماء والصفات التي أخبر بها عن نفسه وأثنى على عباده المتخلّقين بها؟