أعرفُ توائم منذ سنوات، هم كالأبناء لي، وما زلت أخجلُ حين أخفق في التمييز بينهم، والغريب أن هذا التشابه الشديد هو مدعاة إلى قراءة الفروق الدقيقة بينهم في الوجه والصوت والضحكة.
والتطابق في الشكل بينهم يحكي تطابقًا في الطباع والأمزجة والميول.
عشرات الكتب صدرت حديثًا عن علم الطباع، قرأت منها: “علم الطباع” للدكتور سامي الدروبي، ويمتاز بسرد نماذج من التراث الأدبي العربي.
الطبع يعني الاستعداد الفطري الأساسي، ويغلب عليه الثبات، ولذا يقال: “غيِّر جبل ولا تغيِّر طبع”، ولكن تغيير الجبال أصبح ممكنًا اليوم!
القبضة من طين الأرض متفاوتة في لونها وتماسكها ورائحتها وخصبها، والماء الذي عُجنت به متفاوت، وامتزاج الطين الكثيف بذبذبات الروح العالية ولَّد كائنًا معقَّدًا مختلفًا متميِّزًا عامرًا بالأسرار، قادرًا على اكتشاف نفسه متى أراد.
حين أتعرَّف على طباعي الأصلية كإنسان أولًا، ثم طباعي الخاصة التي ترسم هويتي الذاتية وشخصيتي أكون أقدر على التعامل معها بشكل أفضل، وعلى اتخاذ القرار الصحيح في وقته.
الحرية طبع إنساني: ﴿َلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ (البقرة:35)، الأصل هو “نعم”، الأصل الإذن والإباحة، و”لا” جاءت استثناءً، ولو كانت “لا” هي الأكثر لعوقت ملكاته وأشواقه وامتداداته.
قد يكون القيد طريقًا إلى الحرية، وجدت هذا في خلوتي القسرية حين اقتربت من نفسي أكثر، واستمعت إلى بعض همسها، وتخففت من ضجيج الناس.
من الحرية أن تكون أنت أنت ولست غيرك.
التغيير طبع: ﴿حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ (البقرة:35)، ولذا قالوا لموسى: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ (البقرة:61)، التنويع في المأكل والمشرب والملبس والتنقل مصدر للمتعة لدى الإنسان.
ومقاومة التغيير طبع، وهل يمكن تغيير الطبع؟
يقولون لك: “يستطيع الذئب تغيير جلده ولا يستطيع تغيير طبعه”، و”اطرد الطبع من الباب يدخل من الشباك”، و”الطبع أغلب” وكذلك:
وَكُلٌّ يَرَى طُرُقَ الشَّجَاعةِ وَالنَّدَى وَلَكَنَّ طَبْعَ النَّفْسِ لِلنَّفْسِ قَائِدُ
جميل قطعًا أن تكون مطبوعًا على الفضائل ميَّالًا إليها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأَشَجِّ عبد القَيْس: «فيك خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناة»، قال: أكانا فيّ أم حدثا؟ قال: «بل قديمٌ»، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب.
على أن “تهذيب” الطباع مقدور عليه بالمجاهدة والصبر الطويل والمعرفة، وليس طبع الإنسان كغريزة الحيوان التي لا ينفك عنها، كالافتراس في الأسد واللَّدغ في العقرب!
يحكى أن أعرابية أخذت جرو ذئب وربته وسقته من لبن شاتها فلما كبر عدا على الشاة فبقر بطنها، فجزعت لذلك وأنشأت تقول:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي وأنت لشاتنا ولدٌ ربيب
جحدت جميلنا ونشأت فينا فما أدراك أن أباك ذيب؟!
إذا كان الطباع طباع سوءٍ فلا أدبٌ يفيد ولا أديب!
الأعرابية خلطت بين الغريزة الراسخة التي لا تتبدل وبين الطبع العارض القابل للتحويل والتعديل، ولعلها أخطأت من شدة الألم!
قال أبو الدرداء رضي الله عنه وغيره: «الحلم بالتحلُّم والعلم بالتعلُّم، ومَن يتحرَّ الخير يعطه، ومَن يتوقّ الشر يوقه».
وفي «الصحيح» عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «مَن يستعفف يعفّه الله، ومَن يستغن يغنه الله، ومَن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر».
الندم والتأسف على الفائت طبع: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ (الأعراف:23)، ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ (المائدة:31)، وليس هذا عائقًا عن التدارك ومدافعة القدر بالقدر.
اشتهاء الممنوع طبع: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا﴾ (طه:121)، والممانعة شرع، قال عمر بن عبد العزيز: “ألذ شيء هوى وافق شرعاً”، وطوبى لمَن كان هواه تبعًا لما جاء به الوحي.
الأُنس بالإنس طبع: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ (البقرة:35)، فالإنسان كائن مدني اجتماعي، والبشر يتفاوتون في حبِّهم للاختلاط أو الانفراد، عاش الأبوان على الأرض ولم يكن فيها أنيس سواهم، وعيونهم على المستقبل: الذرية والإعمار.
شرَّع لنا الأبوان التعايش مع المختلف والمناقض، وتبادل المنافع والمعارف: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات:13).
العجلة طبع: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ (الإسراء:11)، يُروى أن آدم عليه السلام همَّ أن يقوم قبل اكتمال نفخ الروح فيه!
التدريب والتجربة والخبرة والسِّن تمنح قدرًا من الأَنَاة لعجول مثلي!
البراءة في آدم عليه السلام طبع: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ (الأعراف:21 – 22)، لقد ظنوا أَلَّا أحد يقسم بالله كاذبًا!
العفوية والانطلاق على السجية دون تكلف: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ (الأعراف:22)، تصرف مباشر يستجيب للحاجة الطارئة دون تطويل أو تردد.
تختفي شخصية الإنسان وموهبته حين يعتاد على لبس الأقنعة، وتطغى عليه شخصيات الآخرين من حوله.
حب الحياة طبع: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ (طه:120)، وكلنا نكره الموت كما قالت عائشة رضي الله عنها، وجمال الحياة حين تستشعر معناها ورسالتها، حين تستمتع بالعطاء.
حب الاستطلاع والتساؤل طبع: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ﴾ (طه:120)، ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ (الأعراف:20)، المعرفة كنز، والفضول ليس من المعرفة، أي قيمة لاشتغال الإنسان ودخوله فيما لا يعنيه.
الانفعالية والاندماج في حدث ما (مؤلم مثلًا) حتى يتوقف عن معايشة الحياة، أو التعاطي الرشيد معه دون استسلام، نموذجان إنسانيان، الأبوان عَبَرَا قصة الشجرة، فالهبوط، والغربة، ومواجهة تحديات الحياة، وخلافات الأبناء.
قضايا اليوم في عالم العروبة والإسلام فجائع لا تحكيها مفردات اللغة، والتعاطي الرشيد معها ضرورة إنسانية وواجب شرعي وانتماء وطني، وليس من ذلك أن نفقد صوابنا ونتحول إلى كائنات مكتئبة، أو عدمية، أو يائسة، أو أن نطالب بإيقاف عجلة الحياة!
الفعالية والطاقة طبع يتفاوت فيه البشر، فيهم الجَلْد القوي المولع بالحراك، ينتهي من عمل ليشرع في آخر، ويمنح الطاقة لمَن حوله، وفيهم البليد الكسول الذي إن تُرِك تَرَك.
التسامح والتعافي والتجاوز طبعٌ حسنٌ يحرِّرك من قيود الحقد والانتقام والتربص، وما أعظم أن يستطيع المرء قراءة طباعه وشخصيته، وما أجمل أن يكون كما حكى أبو ماضي:
حُرٌّ وَمَذهَبُ كُلِّ حُرٍّ مَذْهَبِي مَا كُنْتُ بِالْغَاوِي وَلَا المُتَعَصِّبِ
تَأْبَى طِبَاعِي أَن تَمِيلَ إِلَى الأَذَى حُبُّ الأَذِيَّةِ مِن طِبَاعِ العَقرَبِ
لِي أَن أَرُدَّ مَسَاءَةً بِمَسَاءَةٍ لَوْ أَنَّنِي أَرْضَى بِبَرقٍ خُلَّبِ
حَسْبُ المُسِيءِ شُعُورُهُ وَمَقالُهُ فِي سِرِّهِ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُذنِبِ
إِنِّي إِذَا نَزَلَ البَلَاءُ بِصَاحِبِي دَافَعْتُ عَنْهُ بِنَاجِذِي وَبِمِخلَبِي
وَأَرَى مَسَاوِءَهُ كَأَنِّيَ لَا أَرَى وَأَرَى مَحَاسِنَهُ وَإِنْ لَمْ تُكْتَبِ
وَأَلُومُ نَفْسِي قَبْلَهُ إِنْ أَخْطَأَتْ وَإِذَا أَسَاءَ إِلَيَّ لَمْ أَتَعَتَّبِ
مُتَقَرِّبٌ مِن صَاحِبِي فَإِذَا مَشَتْ فِي عَطْفِهِ الغَلْوَاءُ لَمْ أَتَقَرَّبِ