الرضا منظومة لأن عناصره الثلاثة والمتعلقة بالعقل والقلب والنفس تتفاعل معاً وتؤثر وتتأثر ببعضها.
الرضا قناعة عقلية
ويمكن تحقيق هذه المنظومة من خلال بعض الخطوات؛ مثل:
أ- النظر في آيات الله:
إن النظر في آيات الله وفهم معانيها والتدبر في معرفة قبس من الحكمة منها، والتعرف على المولى عز وجل من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلى، ليبني قناعات عقلية راسخة على التسليم والرضا بأن نحمد الله الذي هدانا لعبادته، هذا الرب العظيم الذي عرفنا عليه من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وسنتناول قبسا من هذا النور فيما يلي:
إن لفظ “رب” بما فيه من حُنوِّ الربوبية وإحساس العبد المخلوق بالعوز الدائم لخالقه جل وعلا، يمثل الإحساس الدافئ بالاطمئنان في جانب الرب الرحمن الرحيم، فقد ورد لفظ الرحمن في القرآن الكريم 161 مرة، ولفظ الرحيم 164 مرة بينما لفظ رب ورد 1241 مرة.
وهو سبحانه وتعالى قريب من عباده، وقد ورد لفظ قريب في القرآن الكريم 26 مرة فهو أقرب إلينا من أنفسنا، ووعد من سأله بالإجابة بما فيه مصلحته، فقد ناجاه سيدنا يونس في ظلمات الحوت والبحر فكان الرد “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ”، وهذا ليس خاصاً ليونس بل يتفضل المولى عز وجل على كل عباده المؤمنين “وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ”، وقد ذكر د. النابلسي في صفحته على الإنترنيت قصة الحسن البصري مع الحجاج وكيفية يقينه بقرب الله منه وثقته بالله عز وجل أنقذه وألجم الحجاج وجبروته.
كما ورد لفظ عليم في القرآن الكريم 161 مرة؛ فالله أعلم بالعبد من نفسه فهو خالقه سبحانه، أعلم بقدراته وطاقاته، وأعلم بما يصلحه ويفسده وهو العليم بالغيب، فمن العباد لو أن الله بسط له لبغى وتكبر، ومنهم من لو أن الله قدر عليه لقنط ويئس، فهو سبحانه أعلم بعباده.
وهو سبحانه وتعالى حكيم في قضائه وقدره، فقد ورد لفظ حكيم في القرآن الكريم 97 مرة، وقد اقترن لفظ عليم بحكيم في القرآن الكريم 25 مرة، فقضاء الله وقدره يصدر على علم وحكمة وأنه سبحانه وتعالى كل شيء عنده بمقدار.
ب- اليقين يما عند الله:
إن اليقين بأن الله سبحانه وتعالى غني لا تنفذ خزائنه، يجعل المؤمن مطمئن القلب على رزقه، لا يتصارع مع غيره ويتكالب على متاعها، فعطاء الله لا ينفد؛ لأنه الغني سبحانه وتعالى، وقد ورد لفظ غني في القرآن الكريم 46، كما أنه كريم في عطائه وفضله، وقد ورد لفظ كريم في القرآن 27 مرة، ولفظ الأكرم مرة واحدة، بالإضافة إلى قدرته المطلقة، وقد ورد لفظ قادر وقدير في القرآن الكريم 64 مرة.
جـ- التدبر:
فإذا ما تدبر العبد قبساً من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وأيقن أنه عبد للعليم فهو أعلم به من نفسه وهو الحكيم في قضائه وقدره وأرحم به من أمه، وهو الغني الكريم في عطائه، قادر لا يعجزه شيء، وأن كل ما يقضي به الله فهو له.
إن تدبر المؤمن ومعايشته لمعنى الربوبية “الحمد لله رب العالمين” وتكرارها 17 مرة على الأقل في صلاته، وأن ربه الذي خلقه متكفل به فقد سخر له ما يعينه على أداء رسالته وهو قريب منه ويحفظه، إعمال العقل في هذه المعاني العظيمة وتدبرها وإسقاط المؤمن لها على ما يقابله في الحياة من مواقف شتى.. كل ذلك يتجلي قدرة البارئ عز وجل، فيستخلص العبرة والعظة منها فيمنُّ المولى سبحانه عليه بنعمة الرضا.
د- السياحة:
إن الرضا الذي يجنيه المؤمن من السياحة بين ملكوت أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ليس رضا تلقينيًّا تقاليديًّا بل رضا عقلي مرتبط بالاعتقاد اليقيني أن الله واحد أحد، وما دمنا قد ارتضيناه سبحانه وتعلى ربًّا بقناعة عقلية يقينية فقد ارتضينا بكل ما يقضي به ويقدره لنا، فليس من المنطق العقلي -ناهيك عن شروط الإيمان – أن أرتضي الله رباً ثم يشوب رضائي بحكمه أي شائبة.
هـ- الاطمئنان القلبي:
يقول المولى عز وجل في محكم التنزيل: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {28}) (الرعد)، إن ذكر الله بكل صوره له آثاره الجليلة على اطمئنان القلوب، وقد حث الله المؤمنين على الإكثار منه، وهو سبحانه خالق القلوب ومنزل القرآن وهو الذي جعله اطمئنان لها، وهذا ليس استنتاجا بشريا بل إرادة الله.
إن من صور ذكر الله قراءة كتابه الكريم ليس فقط لأجر التلاوة – وهو عظيم – ولكن للفهم والتدبر والعمل فتطمئن القلوب في معية الله سبحانه وتعالى، ومن هجر القرآن وأعرض عن ذكر الله فلا يلومنَّ إلا نفسه فلن يرضى العبد ولو رزقه الله الدنيا وسيناله – نعوذ بالله – السخط لبعده عن ذكر الله.
إن أول وأقدس درجات العمل هي إعمال العقل بعد تلقي التفسير من العلماء الثقات في محاولة لاستخلاص الحكمة من كل آية ومن ثم العظة وهي القيمة المعرفية المستخلصة والتي ترسخ في القناعات العقلية فتزداد العقيدة الإيمانية وتؤثر تأثيرا إيجابيا في سلوكيات المؤمن، كما أن القلب لا يتأثر فقط بزيادة الإيمان رسوخا عن طريق القناعات العقلية، بل إن القلب يتلقى القرآن مباشرة سواء سماعا أو تلاوة أو حتى نظرة ويتغذى به، ويؤدي ذلك إلى تفتح قنوات التلقي للفهم. ليس هناك فصل بين العقل والقلب، وقد ثبت علميا أن القلب ليس مجرد عضلة لضخ الدماء بل إن به خلايا للتذكر.
2- الرضا سكينة نفسية
إذا ما اجتهد المسلم وأعمل عقله لفهم دينه ومنَّ الله عليه بقبس من حكمته وأيقن بأن ربه الله سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص وأن في قضائه وقدره الرحمة به، وقضى كل وقته في معية الله وحقق العبودية الخالصة لله وكان ذكرا على كل أحواله، وكما يقول العلماء إن النية تحول العادة إلى عبادة حتى في قضاء وطره فهو مأجور؛ فيهنأ باطمئنان قلبه ما دام ذاكرا، فيجني ثمرة ذلك بفضل الله سكينة نفسية، حيث تستقر نفسه ولا يعيش حالة الشتات والتيه وتتنازعه الأهواء والشهوات والدعوات، ورغم التقدم المادي الذي حققته المجتمعات غير المسلمة – وهذا محمود لهم – فإنها تعاني من الاضطرابات النفسية نتيجة الخواء الروحي.. إن السكينة النفسية نعمة وفضل عظيم من الله لا تعادلها كنوز الأرض.
وكما يقول علماء النفس؛ فإن السبب الرئيس للاضطرابات النفسية وما يتبعها من أمراض عصبية وعضوية، سببها الفجوة بين المأمول والواقع سواء أكانت هذه الفجوة حقيقية أو تخيلية. إن الإسلام قد عالج ذلك بإرجاع الأمر كله لله وأن مشيئته سبحانه وتعالى نافذة، ثم بعد ذلك بعد أن تحقق الرضا – وثبت الأجر بفضل الله – يبدأ المؤمن في تحليل أسباب تلك الفجوة سواء أكانت نتيجة ظلم أو قصور الجهد عن تحقيق المأمول أو غير ذلك ومن ثم طرح العلاج؛ لذا فإن المؤمن الذي يوفقه الله فينعم عليه بنعمة الرضا لا يمكن أن يتعرض لمرض نفسي؛ لأن عقله اقتنع بل اعتقد بالرضا بالله وقضائه وقدرة وقلبه اطمئن لأن الذي قدر وقضى رب أعلم به من نفسه وأرحم به من أمه وهو سبحانه غني لا تعجزه مسألته وهو الكريم في عطائه.
إن العبد مادام ذاكراً لله فيطمئن قلبه وينعم بسكينة نفسه، ويحيا في معيته سبحانه فمنَّ الله عليه بأجل نعمه في الدنيا وهي الرضا عن الله فيمنُّ عليه المولى عز وجل برضاه عنه.
قد يقول قائل: كل ذلك طيب وممكن في الرغد والسعة، ولكنني بشر، وأخاف أن أجزع عند المصيبة فيؤثر حزني على رضائي فأهلك؛ لذا أقترح لك أيها الأخ الكريم برنامجا ولك من الفتوحات الإيمانية ما قد يفوق ذلك والله ولي التوفيق.