الدولة الحديثة أو الدولة الوطنية؛ هي ذلك الشكل الذي ورثته البلدان العربية عن الاستعمار، وتشكل -بغض النظر عن مسار التحرر والتضحيات والجهود التي اضطلع بها المجاهدون والمقاومون- من خلال الفكر السياسي الغربي والالتزام بأدوار في نظام عالمي مرسوم المعالم، ومن المؤسف أن تلك الخلطة، أنتجت كيانا هجينا، خلا من إيجابيات الدولة الحديثة في الغرب التي بلورت قيمَها ومفاهيمَها أفكارُ النهضة الأوروبية، وأخذ عنها تسلطها ومركزيتها لصالح دوائر ونخب ،عسكرية في الغالب، تحافظ على وضع يضمن لدول المركز مصالحهم، وهو وضع مربوط من الناحية الموضوعية بمستوى من التخلف السياسي والاقتصادي والحضاري عموما، ذاك هو مقتضى تقسيم العمل على المستوى الاقتصادي، ومقتضى ضمان “التحالفات” وتبعية القرارات على المستوى السياسي.. والمحصلة هي كيانات وظيفية يصعب عليها، حتى لو أرادت، أن تكسر قيد العبودية الذاتي هذا..
هذه النشأة المتعثرة والولادة المبتسرة قادت إلى نشوء جملة من الخصائص والإشكالات لعلها المسؤولة عن أغلب العوائق التي تواجه الإصلاحات والرؤى والمشاريع، وربما يكون الوعي بها وإدخالها في الاعتبار مدخلا ضروريا للتعاطي مع التحدي الأبرز للإقلاع الحضاري في بلداننا؛ تحدي التنمية السياسية.
أول هذه الإشكالات تتمثل في انتفاء الشرعية البنيوية، وتتشكل مظاهرها في أن الدولة الوطنية لم تعكس يوما المصالح القومية للأمة، لا في الاستقلال السياسي لقرارها، ولا في قيم العدل والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، فقد ظل الهدف الذي سعت له النخب التي ورثت هذا الكيان هو ضمان أمن أنظمتها، وإخضاع المجتمع لسطوتها القهرية، وإذا كان من الطبيعي أن تحتكر الدولة القوة باعتبار ذلك حقا يكفله القانون الذي يمثل شرعية سلطتها، والذي يضمن السلام والأمن المجتمعي، ويضمن الرضوخ للقوانين التي تحتكم إليها الجماعة الوطنية، فإن الإخفاق في ضمان الحقوق الفردية، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة وتطبيق القانون بشكل نزيه، هو الذي قاد إلى الفشل الأكبر حين انتقل العنف من الدائرة الضيقة ممثلة في الصراع على السلطة بين النخبة الممسكة بمقاليد الحكم إبان عصر الانقلابات، إلى صراع اجتماعي، حين فرخ الظلمُ والغبنُ جماعاتِ التطرف والتكفير والعنف..هذا فضلا عن غياب شرعية الانتخاب والاختيار الحر من الناس، فقد ظل نظام الحكم في هذه البلدان نظاما عسكريا تحول في لحظة تاريخية معينة إلى نظام حكم مدني بيافطة انتخابية مزورة..
ضعف البناء المؤسسي؛ فقد باتت الدولة هي الحاضنة للسلطة وليس العكس على حد تعبير محمد جابر الأنصاري، وهو المشكل الذي أنتج مؤسسات بلا هوية، وجهازا بيروقراطيا لا يعبر عن المجتمع، إنما يعبر في أحسن الحالات عن قطاع منه، ففي تركيا كانت الدولة حكرا على طبقة مخملية نشأت نشأة غربية، واحتنكت المثل العلمانية والثقافة الغربية، وفي مصر ظلت الدولة حكرا على مجموعة من العوائل التي شكلت مجتمعا مصغرا جدا، يتبادل النفوذ والمال والسلطان جيلا بعد جيل، وفي بلدان أخرى شكلت مجموعات الضباط وشلل النخب نظاما مغلقا، وهو ما جعل الغالبية من الناس تخضع لتمييز ممنهج، وجعل المؤسسات تعبر عن نظام الكارتيلات هذا، ولا تعبر عن الأمة مطلقا، وغدى التعبير الأدق عن الجهاز المؤسسي للدولة هو الدولة الخفية أو الدولة العميقة، بمعنى آخر غابت الدولة وحلت العصابة..
تزييف الإجماع وقتل المجتمع، فبسبب من هاجس الشرعية الذي يلاحق الدولة/ السلطة، كان على المجتمع أن يظل بعيدا عن الاهتمام بالقضايا العامة، وبدلا من السعي لخلق إجماعات وطنية ووعي اجتماعي متقدم ظل أحدَ شروط التنمية في تجارب بلدانٍ عديدة، سعت السلط/ الدول في هذه البلدان إلى توظيف الإعلام والتعليم في سبيل تزييف الوعي، أو تغييبه، وهو ما أنتج قطيعة كبرى وغربة متعاظمة بين الشعوب ونخبها الحاكمة. كما ساهم في تغييب هذه المجتمعات عن المشاركة، وفي حين أن المجتمع الأهلي كان هو عماد النهضة الحضارية في تاريخ المسلمين، وفي الوقت الذي يقوم المنتظم السياسي في المجتمعات الحديثة اليوم على نسيج كبير من قوى المجتمع المدني، يتشكل المنتظم السياسي في بلداننا على دولة تسلطية تحتكر المجال العام إلا من مشاركة “صالونية” لنخب معزولة لا زالت تتعارك في مربعات الأفكار والمشاريع بين الإسلامي والعلماني، وتستغل الدولةُ/ الشلةُ خصوماتها الطفولية حين تستقوي بطرف منها على طرف.
مطاردة التنوع، فالدولة التي تعبر عن كافة مواطنيها، وتؤسس نظريا لدولة المواطنة والقانون، هي في الحقيقة دولة قومية/ عنصرية تختطف الغالبية من مواطنيها بخطاب شعبوي خفي أو صريح، وتزرع بالتالي بذور الضغينة والتنافر والعنصريات بين مواطنيها، ليستفيق المجتمع كله على إشكاليات التعايش، حين يجد نفسه في تقاطع نيران خطابات التطرف العنصري التي أنتجها الظلم والتمييز والايديولوجيات القومية، وسياسات الإلحاق والشطب الثقافية للقوميات والتشكيلات الوطنية المختلفة التي ظلت منسجمة ومتعايشة طيلة عهود التلاقح الثقافي، والمشتركات المصانة.
وبكفاية النظر العابر فإن مشكلات الدولة الحديثة لا تقتصر على الجوانب أعلاه، فهناك مشكلات بنيوية كثيرة، بعضها سياسي متعلق بالسُلط، وبعضها سياسي متعلق بالخارج، وبعضها اقتصادي/ سياسي، وبعضها إداري متعلق بالفاعلية وغياب الخيال والإبداع والإخلاص والفاعلية، ولكننا معنيين هنا بتلك الجوانب المتعلقة بالمصائب التي لا تتعلق بالأداء بل ببنيات التعويق ذات العلاقة بالتدافع السياسي والاجتماعي التي بتغييب الوعي بخطرها سيظل النضال في ضلال مبين.
وهو ما دفعنا إلى عزل الإشكالات والمتلازمات المرَضية السابقة بغية شد الأنظار إلى ضرورة إنتاج خطاب فكري يجعل تلك الإشكالات ضمن مُدخلاته، حتى يتسنى تحديث البرنامج السياسي الإسلامي والوطني بما يستجيب لمشكلات الأمة ويتناغم مع أشواقها وينسجم مع قيمها.
—-
* المصدر: إسلام أون لاين.نت