الإحياء الثقافي هو محاولة التجديد في إطار الأفكار والسلوك مما ينعكس على المجتمع بوافر من الرؤى والأفكار الجديدة التي تخلق واقعاً ثقافيا جديداً، جل الحضارات التي دونها التاريخ وحفظ لنا شيئاً من سيرتها هي ناتج إحياء وتجديد ثقافي، ويتجاوز الأفكار المعتادة والتقليدية المألوفة للجميع.
في كثير من الأحيان يكون الإحياء الثقافي بداية صفحة حديثة من فصول التاريخ والحضارة، لكن من الذي يستطيع أن يخلق ويرسم أول سطور هذه الملحمة، هو من يرفض الواقع ولديه رؤية للمستقبل، ويفهم حركة التاريخ وسياقاتها، ويعي ماهية أدوات التغيير وكيفية استخدامها.
الإحياء الثقافي له أبواب كثيرة، الترجمة النافعة للعلوم والمعارف والآداب هي واحدة من أهم أدوات حركة التجديد الثقافي للمجتمع، حيث العالم من حولنا ينتج كل يوم العديد من الدراسات والكتب والمقالات التي تعالج أو تعلق أو تتناول ظاهرة أو حدثاً في قالب معرفي.
نحن نفتقد في أغلب الأحيان إلى هذا البعد في تناول الكثير من الدراسات، لكن الترجمة في المقام الأول هي نموذج معرفي، وثانياً فائدة علمية تصب في قالب الوعي والاستبصار، وفي بعض الحالات تكون هي ذائقة فنية تنعكس على السلوك والذوق كما في الأعمال الأدبية العظيمة.
ومن الإحياء والتجديد الثقافي فتح باب التعليم للجميع، التعليم المفتوح والمتاح للجميع، ونشر هذا النمط من التعليم المتحرر من القيود البيروقراطية، يقود في بعض الأحيان إلى الإبداع، وذلك بكسر القواعد العامة للتعليم الرسمي، التي ربما تكون سبباً في تخلف التعليم في مخرجاته وتصوراته.
التعليم المفتوح هو مبادرة من يجد في نفسه أنه يملك الفائدة والمعلومة الحديثة، وهذا النمط من التعليم كان متاحاً في كثير من عصور الإسلام الذهبية، حيث يأتي العالم إلى الفضاءات المفتوحة، ويتحلق حوله الطلبة والمثقفون ينصتون إلى علمه ويناقشونه في أفكاره وأطروحاته.
وفي زماننا هذا، يوجد العديد من الفضاءات المفتوحة التي هي منصات عربية للتعليم المفتوح كما هو موقع “رواق” الهادف لنشر المعرفة وغيرها في فضاءات الإنترنت، التي تسهل نقل المعرفة ما بين المحاضر وطلابه.
التعليم المفتوح هو الذي لا يتأثر بدرجة نجاح ورسوب، بل هو تعليم لأجل المعرفة والاستفادة والتعلم وكسب معلومة أو تمكن من مهارة، أجمل ما في التعليم المفتوح هو الذاتية والدافعية للتعلم بعيداً عن التنميط القاتل لروح التعليم.
المعاهد المتخصصة هي إحدى سواعد التجديد الثقافي، حيث التخصص في علم من العلوم، وإنتاج دراسات متخصصة ينعش الحالة المعرفية في ذات الحقل، هذا النمط من المعاهد المتخصصة ليست بالضرورة أن تكون تعليمية، لكن هي مؤسسات بحثية متنوعة، تكرس جهودها في إطار تخصصي، وهي وجه من أوجه التنمية والاقتصاد المعرفي، حيث في كثير من الدول المتقدمة، تكون هذه المعاهد مداخيل مالية، الجانب المهم فيها للتجديد الثقافي هو أن وجود هذه المعاهد في المجتمع وإتاحتها بوفرة رفع سقف المعرفة وإنتاج مساحة حديثة للمتعلمين والمتخصصين خارج الأطر التقليدية العامة.
في كثير من الدول المتقدمة تكون هناك مراكز نوعية، مثلاً مراكز الدراسات الحضرية، التي تعنى بشؤون المدنية وقضاياها، في السكن والمعيشة والاقتصاد، والتركيبة السكانية، ومعالجة الإشكاليات المعقدة التي تواجه المدن وسكانها في إطار معرفي لتسهيل تفسيرها وحلها، كما هو المعمول به في العديد من المراكز، لهذا فإن المراكز والمعاهد المتخصصة هي مؤثرة بعمق في بنية التجديد الثقافي للمجتمع والدولة.
الصالونات والمراكز الثقافية الحرة، التي هي فسحة الفكر والروح، وملتقى مدني تقليدي للشعر والأدب وأيضاً عرض للمعرفة، حيث كان للصالونات الثقافية فضل في التغير الثقافي الذي حل بالمجتمع الأوروبي، حيث كانت فاعلاً أساسياً في مرحلة عصر التنوير.
منتديات الأدب والشعر في عالمنا العربي والخليجي بوجه خاص محدودة، حيث الشعر ديوان العرب، والأدب فن من الفنون التي يقل الاهتمام بها جيلاً بعد جيل، وذلك لندرتها، ولا نعني بمنتديات الشعر التي تحض على العنصريات والكراهية، بل الشعر السامي الذي يهذب الروح ويغرس القيم والأخلاق، وقد يكون مفعول قصيدة واحدة في النفس ما لا تفعله سنوات ما بين المدرسة والبيت، ربما يكون من أهم وسائل التغيير الناعمة على مستوى الأفكار والمشاعر هي هذه المنتديات، فأبو القاسم الشابي كانت تونس تُنشد شعره في أوج أيام الثورة:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
تلك المعزوفة التي وحدت شعباً بكامله ضد حقبة زمنية مظلمة في تاريخ تونس، الشعر ليس بالضرورة هو شعر الثورة، بل أبواب الشعر والأدب لا تعد ولا تحصى، ولهذا فإن دور الأدب والشعر مهم في حفظ الهوية العربية والإسلامية، وهو وجدان المجتمع وخياله الذي لا يفارقه، وكذلك للشعر والأدب آفاق عالمية إنسانية، ولن نتمكن من الوصول إلى هذا البعد ما لم يكن لدينا وفرة في المنتديات الأدبية التي تدعم الموهبة وصقلها في قالب إنساني يأخذ مساره في الانتشار حول العالم.
المواسم الثقافية هي واحدة من فصول السنة المنتظرة لدينا في السعودية، لكن للأسف هي محدودة، على سبيل المثال، معرض الكتاب الذي هو بحق مناسبة مرتقبة من قبل الجميع، فكيف لو كانت لدينا مواسم ثقافية متنوعة ومنتشرة في كافة أطراف المجتمع، المواسم الثقافية التي يجب أن تكون متنوعة لكافة الفئات العمرية، وتعنى بالعديد من الأمور المعرفية والثقافية في المجتمع.
وأعتقد أن المجتمع السعودي لديه الكثير من الأمور التي يجب أن يُعاد إحياؤها قبل أن تندثر مع الزمن.
من المواسم الثقافية ما هو موروث ثقافي تاريخي، ومنها ما هو مناسبات مبتكرة وإضافة حديثة من قيم وقناعات العصر وإنتاجه، هذه المواسم الثقافية هي ساحة وفضاء اجتماعي للتنوع وعرض الأفكار والمنتجات المعرفية أو المادية.
كل ما ذُكر من أدوات ودعوات الإحياء، من المهم أن يكون تحت مظلة المجتمع المدني، وهي مبادرات الأفراد بعيداً عن البيروقراطيات الحكومية؛ لأنه من الصعب أن يعزل المجتمع عن السياقات الطبيعية للتطور والتجديد، ويقتصر فقط في الدور الرسمي الذي لا يمكن ويستحيل أن يكون فاعلاً بقوة في المجتمع، حيث إن الأفراد مصدر من مصادر العطاء والعمل والتجديد.
المصدر: “نوافذ”.