بانهيار الهدنة السابعة في 19 من نوفمبر الجاري تحققت وفاة مُبادرة كيري التي رأى فيها البعض طوق نجاة مجانياً لمليشيا الحوثي وصالح، خصوصاً وأنها – الهدنة – تزامنت مع انكساراتٍ موجعة للمليشيا في تعـز.
يمكن القول: إن الانتصار في تعز عزّز الموقف الرسمي الرافض لخارطة كيري التي تعاطت بشكل سلبي مع النظام الشرعي وأرادت شرعنة الانقلاب على حساب الشرعية الدستورية، وهو ما رآه البعض محاولة مكشوفة لتكرار النموذج اللبناني أو العراقي في اليمن من خلال تثبيت المليشيا من زاوية تقاسم السلطة على أساس طائفي، وهو ما يتناقض مع طبيعة التكوين الديمجرافي للشعب اليمني.
في السياق الموازي، مثّلت خارطة كيري التي اصطدمت بالموقفين الشعبي والرسمي في اليمن فرصة استثمرتها إدارة الرئيس هادي لتعزيز العمق الوطني، من خلال الالتفاف الشعبي والسياسي الذي تجسّد في موقف قوي وموحد لرفض أي حلول تتجاوز الشرعية والتي كان هادي قد استبقها بتصريح متلفزٍ قال فيه: لن يستطيع أي كان أن يفرض على الشعب اليمني ما لا يرغب فيه، ولا يمكن أن يقبل الشعب اليمني بتكرار التجربة الإيرانية.
عسكرياً؛ يبدو أن ما جرى في تعز من دحرٍ للمليشيا فتح شهية الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، إذ شهدت جبهات حيوية هجماتٍ شرسة لتوسيع رقعة النفوذ الشرعي للحكومة، فحصل تقدمٌ عسكري في أكثر من جبهة خصوصاً في دمت من محافظة الضالع، وكذلك في ميدي على الساحل الغربي، ونشطت المقاومة في البيضاء وشبوة، وبدا الرئيس أكثر جدية في الذهاب نحو التحرير الكلي بإصداره قرارات تعيين عسكرية مهمة لقيادات المناطق العسكرية الأولى والرابعة والسابعة.
ومع توالي الهزائم للمليشيا، وتقلص الدعم القبلي لهم بمنع تجنيد المزيد – إذ قدمت قبيلة الحدا في محافظة ذمار مثلاً أكثر من 3000 آلاف قتيل من شبابها مع المليشيا بينما خسرت قبيلة حاشد أضعافهم – لجأ الحوثيون من جديد للعُرف القبلي بدعوة القبائل لنصرتهم استجابة لما يعرفُ قبلياً لنداء “النَكَفْ”؛ وهو طلب النُصرة والنجدة من القبائل التي كانوا يؤلبّونهم بلافتات مكشوفة ومستهلكة من قبيل الوطنية والتصدي لـ”العدوان الخارجي”، ومكافحة من يصفوهم بـ”الدواعش” في تعز وعدن ولحج من قبلها.
تسببت المليشيا الانقلابية في اليمن منذ اجتياحها للعاصمة صنعاء في سبتمبر 2014م بمقتل نحو 11.500 مواطن يمني، 90% منهم مدنيون، بينهم قرابة 950 طفلاً وفقاً لإحصاءات غير رسمية.
ووضعٌ إنساني آخذٌ في التدهور نتيجة استمرار الحرب وما يمكن اعتباره حصاراً تفرضه المليشيا على المحافظات التي تتواجد فيها، وبين عامي 2014 و2016م شهد اليمن انهياراً اقتصادياً بات معه أكثر من 82% من السكان تحت خط الفقر وفي حاجة للإغاثة الإنسانية.
ووفقاً لتقرير المنظمة الدولية للهجرة (فبراير 2016م) فإن:
21.2 مليون يمني يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، منهم نحو 10 ملايين طفل، 14.4 مليون شخص – بينهم 8 ملايين منهم أطفال – يُعانون من انعدام الأمن الغذائي، 7.6 مليون منهم يُعانون انعداماً شديداً في الأمن الغذائي، 19.4 مليون لا يحصلون على ما يكفي من المياه وخدمات الصرف الصحي، 14.1 مليون – 50% منهم أطفال – لا يحصُلون على رعاية صحية كافية، 2.5 مليون على الأقل – أكثر من ثلثهم أطفال – نزحوا عن ديارهم، 1.5 مليون طفل يمني يُعانون من سوء التغذية الحاد.
وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) قد أطلق نداء استجابة عاجلة بقيمة 1.8 مليار دولار للعام 2016م لسد الحاجة الماسة للمساعدات الإنسانية خصوصاً مع ظهور للمجاعة وانتشار الأمراض والأوبئة في عدد من المحافظات الأكثر سكاناً كتعز والحديدة وأمانة العاصمة وعدن.
في ضوء هذه الأرقام، فإن اليمن يعيش تدهوراً اقتصادياً نتج عن نهب واستنزاف المليشيا المسيطرة على صنعاء لأكثر من 4 مليارات دولار كانت في خزينة البنك المركزي، فضلاً عن مليار دولار هو حجم الوديعة السعودية.
بلغ هذا التدهور مداه بعد إعلان البنك المركزي في سبتمبر الماضي عجزه عن توفير رواتب نحو 1.2 مليون موظف ومتعاقد في القطاع الحكومي، توقفت رواتبهم لأربعة شهور (يوليو – أغسطس – سبتمبر – أكتوبر)؛ الأمر الذي أدى لتفاقم الوضع المعيشي لأكثر من 5 ملايين نسمة يعيشون على الرواتب، وباتوا إنسانياً في حاجة للإغاثة الغذائية العاجلة.
ومع ظهور بوادر ثورة جياع والانحدار نحو انهيارٍ كلي للاقتصاد الوطني، كان لا بد أن يتخذ الرئيس هادي قرارات مهمة وحاسمة لمنع السقوط الكلي لما بقي من مؤسسات الدولة وفي مقدمتها البنك المركزي.
حيث سارع الرئيس هادي لاتخاذ قرارات مهمة لعل أهمها نقل مقر البنك المركزي إلى العاصمة المؤقتة عدن، وتعيين إدارة جديدة له، وكان قد مهّد لذلك بقرارٍ يمنع سلطة المليشيا في صنعاء من التصرّف بما تبقى من الاحتياطي النقدي الأجنبي لليمن في البنوك الخارجية.
تلا ذلك قرارات تمنع توريد الإيرادات المالية من المحافظات النفطية كمأرب وحضرموت وشبوة، ومن أهم المنافذ الإيراديّة والجمركية وضخ ذلك إلى عدن بدلاً عن صنعاء، ومثّل ذلك ضربات موجعة للمليشيا التي لم يتبقّ لها إلا إيرادات صنعاء والحديدة كموارد رئيسة إضافة لعائدات الضرائب من بعض المناطق التي يسيطرون عليها.
إجراءات تفاقم من ورطة تحالف الحوثي والمخلوع الذين فوّتوا على أنفسهم واليمن 7 فرص للهدنة أعلنتها الأمم المتحدة خلال (13 مايو، و10 يوليو، و15 ديسمبر من العام الماضي 2015م، مروراً بهدنة 10 أبريل، ثم 27 يوليو، و19 أكتوبر، وصولاً إلى 19 نوفمبر من العام الجاري 2016م)، وتورطوا أكثر بثبوت فسادهم المالي وفشلهم الإداري في تسيير شؤون العاصمة التي يحكمونها بسلطة السلاح.
في الشأن الرسمي، تواجه حكومة بن دغر تحديات معقّدة لبسط نفوذها في المناطق التي تسيطر عليها والتي تبلغ 80% من إجمالي الجغرافيا اليمنية، لعل أصعب هذه التحديات الملفين الأمني، والاقتصادي.
فلا تألو الحكومة ممثلة بالسلطات المحلية جهداً في تطبيع الأوضاع اقتصادياً وبسط النفوذ الأمني على الأقل في المناطق المحرّرة كمأرب وعدن، خصوصاً مع تكرر الجرائم الأمنية التي تنفذها عصابات تعمل لمصلحة الجهات المناوئة لمشروع الجمهورية الاتحادية، في استهدافٍ واضح للنيل من الكفاءة الإدارية والأمنية للحكومة الشرعية.
إزاء ذلك، يسعى الرئيس وفريقه الاستشاري والتنفيذي لاتخاذ قرارات تصب في مربع تثبيت سلطة الدولة وبسط نفوذ القانون بتعييناتٍ عسكرية وسياسية وحكومية ودبلوماسية تصب في ذات الاتجاه، وهي خطوات تكرّس رغبة الرئيس هادي في تجاوز العوائق العسكرية والأمنية والاقتصادية، مُستنداً إلى الموقف الداعم من التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية، وتعاون الأشقاء أمراء ورؤساء دول الخليج العربي.