بسورها القديم الشامخ، وأزقتها الضيقة العتيقة، تحكي مدينة هرر الإثيوبية العريقة تاريخا ثريا، رغم محاولات الحداثة أن تصبح جزءا من واقع المدينة، التي تبعد 525 كيلومترا شرق العاصمة أديس أبابا.
السور، الذي تتعدد مداخله عبر خمس بوابات، لم يسمح بتغير ملامح المدينة، فلا تزال تعرف بمدينة المآذن والأولياء، حيث تحتضن 99 مسجدا، وعدد من أضرحة وقباب الأولياء والصالحين، وتشتهر بتقليد إطعام الضباع.
ما إن تدخل سوق هرر، وتفاصيله ما بين المدينة الحديثة وتشققات مباني المدينة القديمة، حتى تأخذك التقاليد التاريخية، ثقافية ودينية، فلا تزال حية تحكي عن أصالة هذه المدينة وأهلها.
مدينة هرر هي حاضرة إقليم يحمل الاسم نفسه، وهو من أصغر أقاليم إثيوبيا، مساحة وسكانا، حيث يبلغ عدد سكانه قرابة 210 آلاف نسمة (من أصل أكثر من 102 مليون نسمة)، وفق تعداد عام 2012، يعيش أغلبهم في المدينة.
نبيل محمد، وهو طالب جامعي من سكان المدينة، عبر لمراسل الأناضول الذي زار هرر، عن اعتزازه بها قائلا: “أنا من مواليد هذه المدينة العتيقة.. هنا موطن أجدادي، الذين تعلمت منهم ضرورة الحفاظ على إرث وثقافة مدينتا، والاعتزاز بالموروث الثقافي لشعب الهرر”.
بشيء من الأسى لما فعلته العولمة بأبناء جيله في هرر، تابع محمد: “كان الزائر لمدينة هرر يعرف السكان الأصلين بزيهم التقليدي المميز، الذي يعبر عن الثقافة الإسلامية للمدينة، لكن اليوم تغيرت الصورة، فما عاد السكان الأصليون يُعرفون من بين سكانها الجدد، خاصة الشباب منهم”.
بنبرة صوته الحزينة ذاتها، أقر الشاب الإثيوبي بأنه “لا يمكن منع حدوث مثل هذه التغييرات، إلا أن الثقافة والدين صامدان، وسنحافظ على ثقافتنا وتقاليدنا وحضارتنا القديمة بالحفاظ على أحياء المدينة القديمة وسورها العتيق”.
من القرن العاشر
مراسل الأناضول التقى نبيل في مبنى القنصلية التركية، وهو بحسب الشاب الإثيوبي، “أحد المعالم التاريخية التي يفتخر بها السكان الأصليون لهرر.. توجد معالم ستظل جزء من تراثنا وثقافتنا تحكي عن حرف يدوية أبت أن تندثر مع الزمن، من تجليد الكتب بالطريقة التقليدية، وحياكة الفساتين الحريرية، والحدادة لصناعة الخناجر، بجانب النسيج والدباغة”.
تاريخ مبنى القنصلية التركية، الذي يتكون من مكتبة ومتحف وقاعة اجتماعات وكافتيريا وأماكن للاستقبال والاستراحة، يعود إلى الفترة بين عامي 1875 و1885، وقد افتتحت تركيا أول قنصلية عامة لها، خلال العهد العثماني، في هرر عام 1912.
أما مدينة هرر نفسها، فيعود تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي، وهي من أقدم مدن شرق إفريقيا، وتعود ثلاثة من مساجدها الـ99 إلى تلك الحقبة، وعلى رأسها المسجد العتيق، المعروف بمسجد جمعة، والذي جرى ترميمه وتحديثه، فأصبح تحفة جميلة وسط مباني المدينة العتيقة، التي تتنوع ألوانها بين الأصفر والبنفسجي والأخضر، وغيرها.
السور التاريخي
سور هرر شُيد بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر الميلادي، واكتمل في عهد الأمير نوري (1559 – 1567)، وله خمس بوابات لا تزال قائمة، كانت تفتح في تلك الفترة على المحاور الخمسة المؤدية إلى المدينة.
هذه الأبواب الخمسة ترمز إلى الصلوات الخمسة التي يؤديها المسلم يوميا، وتحمل أسماء: باب السلام، والنصر، وبدر، والرحمة، والبحر الأحمر، وكان فوقها 24 برجا للمراقبة لم تعد موجوده.
السور، الذي يعرف بـ”جقال” (Jugal)، يمتد 3348 مترا، ويرتفع 4 أمتار، وعلى مساحة 48 هكتار (الهكتار يساوي 10 آلاف متر مربع)، وقد حافظ على هوية شعب الهرر، الذي يعيش داخله في وئام وتسامح.
على أحد أبواب السور توجد عبارة “يا الله النصر”، وداخل السور، وتحديدا على جدران مداخل الأزقة الضيقة، توجد كتابات أخرى تشير إلى ثقافة عربية عريقة نهلت منها المدينة.
هرر بسورها العتيق، الذي يحتضن مئات الدور التقليدية، جرى إدراجها على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) عام 2006؛ إثر منح المنظمة هرر جائزة السلام لعامي 2002 و2003، بفضل تعزيزها قيم السلام والتسامح والتضامن الاجتماعي عبر الحياة اليومية لشعب الهرر.
ووفق اليونسكو، فإن هرر هي رابع مدينة مقدسة للإسلام، حيث تحتضن 3 مساجد تعود إلى القرن العاشر الهجري، إضافة إلى 102 ضريح لـ”أولياء”.
والمستكشف البريطاني ريتشارد بورتن هو أول من دخل المدينة، عام 1854، متنكرا، حيث كانت محرمة على غير المسلمين.
وفي 1887، ومع سيطرة الإمبراطور مينيليك الثاني على المدينة وضمها إلى إثيوبيا، بدأت حقبة جديدة، وفتحت هرر أبوابها أمام المسيحيين الإثيوبيين من إثنيات مختلفة وكذلك للأجانب.
ليسوا كالآخرين
الشيخ ياسين حسين، وهو أحد أعيان المدينة، وعضو البرلمان في إقليم هرر، قال للأناضول إن “مدينة هرر لا تزال تتمتع بهوية متفردة، وتتميز بلغة الهرر، التي جرى الحفاظ عليها؛ بفضل عزلتها عن المناطق الأخرى”.
معددا خصائص المدينة، تابع حسين بقوله إن “هرر كان لها نظام تجاري، ومنتجات حرفية مشهورة، وكانت تنظم فيها حفلات دينية وليال لإلقاء الشعر.. الهرر لهم ثقافة مختلفة، على صعيد الأكل والتصرف وغيرهما.. هم يريدون الحفاظ على ما هم عليه، ولا يريدون تقليد الآخرين؛ لذا تجدهم يختلفون عن الآخرين”.
في القرن السادس عشر الميلادي كانت هرر عاصمة إحدى الممالك، وأصبحت مركزا تجاريا كبيرا بفضل وجودها على طرق التجارة مع بقية إثيوبيا، وكذلك مركزا للدراسات الإسلامية، ثم تحولت في القـــرن السابع عــشر إلــى إمــارة مســـتقلة.
إطعام الضباع
بفضل كل ما مرت به، تضم هرر خليطا متوازنا بين قديم وحديث تشكل منه سكانها، فالورع الديني والتقاليد الراسخة لا يمنعان انتشار الأجهزة الإلكترونية الحديثة من هواتف محمولة وحواسيب.
هرر تشتهر بالبن، فهو أجود أنواع البن الإثيوبي، بجانب القات (نبات يتم مضغه)، وتقليد إطعام الضباع من قبل السكان عند أبواب المدينة، حيث يضعون الطعام في طرف عصا قصيرة يمسكونها بالفم ليقترب الضبع كثيرا منهم ويلتقط الطعام.
ولا يعرف أصل هذا التقليد تحديدا، وهو يمثل نقطة جذب سياحية وميزة تتفرد بها تلك المدينة التاريخية.
ومنذ قرون، لا تزال احتفالات عيد الفطر في هرر على حالها، وهو جذب آلاف الزوار إلى المدينة؛ للمشاركة في فعاليات موسيقية وغنائية وولائم تدوم ثلاثة أيام.
وهرر، التي كانت تعرف قبل ثلاثة قرون باسم مدينة “أبادر”، هي اليوم أحد أهم أقاليم إثيوبيا التسعة في مجال السياحة، بفضل تاريخها العريق وسمعة أهلها، الذين يعيشون في تسامح ووئام.
ودوما، تعرب الحكومة الإثيوبية عن اعتزازها بشعوبها وقومياتها، وقد احتلفت الأسبوع الماضي بالعيد الـ11 لتلك الشعوب والقوميات، بمشاركة الرئيس السوداني، عمر البشير، والصومالي حسن شيخ محمود، والجيبوتي إسماعيل عمر جيله، بجانب رئيس الوزراء الإثيوبي، ايلي ماريام ديسالين، وعدد كبير من المسؤولين.