قبل أن تتحول كلمة “النهاية” على الشاشة إلى عبارة؛ ظهر الممثل الذي أدى دور الرجل الراحل الذي حكم أكبر دولة في العالم منهاراً يصرخ بلا اتزان؛ متهماً الجميع بـ”التآمر” عليه؛ ورغم أن “صلاحياته” كانت تُنزع عنه؛ بل إنه كان في طريقه إلى النهاية بعد فضيحة دولية مُدّويّة عن عمولات تلقاها بشكل خاص من دولة اعتبرها نظامه “معاديّة”؛ فإن الرئيس الذي كان أخذ يتوعد الجميع بالويل وعظائم الأمور.
ثم خفت الصوت وفيما تعالت حدة انفعالات الوجه؛ وإشارات اليدين.. وقال صوت أكثر وضوحاً في تعليق صوتي يناسب أجواء الفيلم إجمالاً؛ بداية من حياة “الرئيس” اليتيم المُوزع بين الملاجئ.. إلى رجل السياسة الذي لا يراعي مبدأ ولا ذمة في سبيل الوصول إلى أهدافه الخاصة غير العالية الهمة.. كانت كلمات الخلفية المكتوبة والمسموعة في نهاية العمل الدرامي الذي لاقى نجاحاً في الولايات المتحدة الأمريكية.. مثلما أحدث دويّاً في كل دولة تم عرضه بها:
– هذا الرجل لم يحب أحداً في حياته.. لأنه، باختصار، لم يجد مَنْ يحبه!
في سنيّ الصبا نرقب معالم النضج المبكرة في أنفسنا؛ وملامح مرحلة الفتوة التي تمت تسميتها في ظل المدنية الحديثة ظلماً بـ”المراهقة” ومن قبل طوفان من المشاعر المختلطة؛ التي إن أشارت بوصلتها إلى شيء فإنما تشير إلى محبة جارفة إلى ما لا نعلم من الأناسي؛ ونجد في قرارة الروح افتقاداً شديداً إلى أحد يجدد معالم التكوين الذي نعرفه عن أنفسنا.
نجدنا مستغرقين في تخيل “قادم” ما سوف يحملنا على بساط سحري؛ وأحياناً حصان أبيض إلى أجواء أكثر من وردية حيث العالم متماه النظام مع ذاته؛ بالغ الجمال؛ كل الذين فيه مخلصون لا يعرفون كذباً أو نفاقاً.. أو حتى فتوراً في الإخلاص.
وينتهز صناع الدراما الإعلامية الفرصة في العالم كله؛ وعلى مدار التاريخ الحديث؛ فتجد طوفاناً من التجارة والتلاعب بمشاعر البشر متدفقاً بدأ من هذه النقطة العمرية؛ أغانٍ وتحايل على العواطف والمشاعر وتصويراً للحب الخالد الذي لا ينتهي وإن انتهت الحياة، والأرواح التي تهيم في عالم الهوى حتى لا تعرف غداً من أمس، ولا دقة قلب الحبيب من الحبيبة، وكأن المحبة بين البشر سوف تريحهم من جميع أبعاد المعاناة الحياتية؛ وتجعلهم في جنة حتى ما لا نهاية.
أما الساسة المغروسة أقدامهم وهاماتهم في وحل المصالح، الذين يدوسون على رقاب البشر، ويقبلون بوفاة الآلاف منهم، على أقل تقدير في سبيل أن ينال واحدهم من الزعامة والمكاسب المحدودة لنفسه وبلده، أما هؤلاء منزوعو الضمير، اللهم إلا مَنْ رحم ربي؛ فهؤلاء يوعزون إلى صنّاع الدراما المغناة والممثلة سواء في أفلام أو مسلسلات بلا نهاية، يقولون إلى الفئة التي تتاجر بالمشاعر، وأحياناً الغرائز: أمدوا هؤلاء مفتقديّ الشعور بالأنس، المتلهفين على الراحة في الدنيا، والإشباع العاطفي، أريقوا عليهم من الأعمال الرديئة التي تصور قرب الرجل من المرأة واتصالهما على أي نحو بأي وسيلة وطريقة على أنها منتهى الآمال في الدنيا.
وإلا فراجع فترات الهزائم العسكرية والسياسية في تاريخ دول كانت تعد كبرى في العالم الحديث وطوفان الأفلام السيئة المواكب، وانتشار العلاقات المشينة بين الجنسين في محاولة لتعويض الخسارة الحقيقية في ميدان المعارك، والأمثلة يضيق الوصف عنها.
وراجع آليات النظم الظالمة وكيف تصوغ وتزين أجهزتها الأمنية للشباب الزواج كحل لدى المتدنين، والعلاقات المشينة لدى غيرهم كحل لمشكلات أهم وأشمل وأعم تتناول الوطن والأمم بل الحضارات، وراجع منظومة الوعي التي تنهار حيناً فحيناً هنا وهناك فيما مواطنون يصرون على الهدف من حياتهم هو مجرد تربية أطفالهم وإطعامهم وإشباعهم حتى يكبروا!
فيما الأمر باختصار أننا منذ نعومة أظفارنا نحتاج إلى “ستر” وشعور بالقوة لا يتأتى إلا بالقرب والوصل مع قوى تملك أن تحرك هذا الكون؛ وبالتالي تجعلنا نتغلب على شعور بالاغتراب الشعوري، والبعد عن الذين لا يملكون مقداراً كافياً من الشفافية ومحاولات الأرواح الترقي، وهو الشعور الذي ينمو لدى الذين يتعلقون بغير الله تعالى، فتجد أحدهم يختصر حياته في أمواله وعقاراته، مصانعه أو تجارته، منصبه الكبير أو سلطاته، أبنائه أو زوجاته، وهكذا.. كلما أوغل أحد البشر في الاهتمام بهذه الحياة زادته الأخيرة جوعاً وظمأ وعطشاً؛ إذ إن متعها لا تجتمع إلى بشر، فيما السائر الراغب في مزيد من النهل منها لا يكتفي مهما وصل إلى درجات يحسده عليها المحرومون!
وفي قلب معادلة الحنين الجارفة التي تجعل البعض؛ ممن اجتمعت لهم الدنيا فأهدت محاسن يتشهاها الكثيرون؛ تجدهم جافيّ المشاعر؛ متشوقين إلى لمسة من الشعور الحقيقي فيما هم أبعد ما يكونون عن رفيق الشعور مع الآخرين.
وتزداد المعادلة مع التقدم في العمر، ومزيد الافتقاد الذي لا حدود له، البعض يموت في نوبة من نوبات الخسارة الكبيرة لديه سواء في وفاة حبيب أو خسارة منصب أو مال، والبعض يصاب بالشلل أو بأزمات نفسية، ويتناسى الجميع أن أحدهم ينتظر سهماً سيصيبه عما قريب “الموت” يحرمه مما بنى في الحياة الدنيا، ويقدمه إلى صاحبها ليسأله عما أحدث وأفسد فيها!
بمقدار قرب أحدنا من صاحب الدنيا بمقدار سعادته الحقيقية وامتلاء قلبه باليقين بأن ما لديه خير وأبقى حتى وإن حرص على أخذ نصيبه من الدنيا؛ إلا أن فوات بعضه أو جزء منه؛ وفق ما تحرص نفوسنا على أخذ كل ما تستطيع؛ إلا أن النفوس المؤمنة يطمئنها الله فلا تشعر بالافتقاد ما تمادت واستمرت فيها الحياة؛ تتنعم بـ “الوصل” الحقيقي مع الذي لا يغيب وصاله أو وداده، ولا يفتقد وإن افتقد البشر أو غابوا أو حتى تاهوا عن خرائطنا، هنا دفء الراحة في الدنيا والآخرة، وانتظار السهم الذي أطلق علينا بمجرد ميلادنا ووصولهم إلينا علامة نهاية الحياة.. انتظاره بمحبة غير منتهية مع رب العزة سبحانه!