في تاريخنا عبق ونور نجوم استطاعوا بفعلهم أن يبنوا من المجد قصوراً، هنا وبين هذه السطور نتحدث عن إحدى العظيمات؛ إنها أم سليم بنت ملحان، زوجة مالك بن النضر والذي أنجبت منه سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد مات مالك وهو على غير الإسلام بعد أن مانع الدخول فيه رغم محاولاتها معه.
بر الأم بابنها
كانت أم سليم نموذجاً للأم القدوة المربية، فمجرد أن بلغها موت زوجها قالت: “لا جرم لا أفطم أنساً حتى يدع الثدي ولا أتزوج حتى يأمرني أنس”، وهكذا تربى أنس في كنفها منذ صغره على الإسلام، فشربه وملأ نفسه حتى بلغ العاشرة، فذهبت للنبي وعرضت عله أنس خادماً له، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من فضل صنيعها وحرصها على دينها وحسن تربيتها لأنس أن شرفه الله بأن يكون بيته حدثاً تاريخياً جعل أنس وأمه حديث الناس، وهو حدث مؤاخاة النبي لـ90 رجلاً من المهاجرين والأنصار.
أبو طلحة في ميزانها
عرفت أم سليم بالذكاء والجمال وحسن السيرة، وكانت لدى الصحابي الجليل أبو طلحة ميلاً إليها ورغبة في القرب منها والزواج بها، وهو الرجل صاحب أكبر بستان في المدينة وذو عمر الشباب وقوة الجسم، فذهب إليها وطلب الزواج منها، لكنها رفضته وقالت له: أنا على الإسلام وليس لي أن أتزوج بمشرك، غضب أبو طلحة وتركها، لكنه عاد إليها في اليوم التالي وقد أحرقه الشوق، فزاد في المهر وظن أن ذلك سيجعلها توافق، ولكن ذلك لم يزدها إلا إصراراً، ولكنها قالت له: يا أبا طلحة، أنت تعبد الشجر، قال: نعم، قالت له: كيف تقبل أن يكون إلهك خشبة تنبت في الأرض يجرها عبد حبشي ولو أشعلتم فيها النار لاحترقت؟
فوقع الكلام في قلبه والحجة في نفسه، فلم يجد إلا الإسلام طريقاً؛ فأسلم، وهنا قبلت المرأة بأن يكون ذلك مهرها، ونادت على ابنها أنس وقالت: يا بني، قم فزوج أبا طلحة، فقال أنس: جزى الله أمي خيراً، قد أحسنت ولايتي وقضت الذي عليها.
صدقة الصداق
ومن مآثر أبي طلحة بعد أن أسلم وحسن أسلامه أنه حينما سمع الآية الكريمة (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، إن عندي بستاني وهو من نخيل، وإنه أحب مالي إلى قلبي، وكنت قد وهبته لأم سليم كصداق وقد اخترت إسلامي عليه، فإني أهبه لله عز وجل، فضعها يا رسول الله حيث شئت فتحول الصداق إلى صدقة وجهاد وبذل.
شكر الله صنيعها
ومن سيرتها رضي الله عنها وأرضاها أن زوجها أبا طلحة دخل عليها ذات يوم ومعه ضيف فقال لها: هذا ضيف رسول الله جاء إلى النبي ولم يكن عند النبي ما يضيفه به فقال من يضيفه يرحمه الله، فقلت: أنا أضيفه فهل عندك شيء؟ فقالت: لا ليس عندي إلا قوت عيالي، فقال لها أبو طلحة: اجعليهم ينامون ثم إذا بدأ الضيف بالأكل فلنظهرن له أننا نأكل معه، ثم فقومي إلى السراج كأنكِ تصلحينه فأطفئيه حتى يفرغ من أكله.
وكان ذلك، ثم جاء الفجر وذلك أبا طلحة للصلاة فإذا بالنبي يفاجئه ويقول له: “يا أبا طلحة، لقد شكر الله صنيعكما بضيفيكما البارحة، ونزل فيهم قول الله عز وجل: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم الصادقون”.