لا شك أن نعمة الأمن تعتبر من أهم النعم التي يأمل كل إنسان عاقل في أن تستمر في المجتمع الذي يعيش فيه؛ لكونها تتعلق بحياة الناس وبأعراضهم وأموالهم، وقد حرص ديننا الحنيف على ضرورة توافر نعمة الأمن في المجتمع الإسلامي؛ وذلك لأهميتها في حياة الناس، وانطلاقاً من أن «الصحة في الأبدان والأمن في الأوطان» من أهم ما تسعد به البشرية؛ ولذا فقد حدد عقوبات رادعة لمن ينتهك أمن الناس واستقرارهم سواء بسرقة أموالهم أو انتهاك أعراضهم أو إنهاء حياتهم.
بعد مرور عام على اتفاق الصخيرات والموقّع في 17 ديسمبر 2015م في المغرب برعاية الأمم المتحدة، لم ير منه الليبيون بنداً منفذاً غير دخول المجلس الرئاسي المقترح للعاصمة طرابلس بعد قرابة 3 أشهر من التوقيع، فلا وقف لإطلاق النار، ولا حل لمختنقات السيولة، ولا توفير للأمن.
وفق ما تم عليه الاتفاق في مدينة الصخيرات بين الفرقاء المتخاصمين، انتهت خلال الأسبوع الثالث من ديسمبر الماضي مهلة حكومة الوفاق الوطني بعد 13 شهراً من تشكيلها وحوالي 10 أشهر على دخولها إلى مدينة طرابلس، ويبدو أن حكومة الوفاق الوطني لم تبالِ بالمهل الزمنية كثيراً، ولم تصرح بأي شيء حيال هذا الأمر.
كثيرون يدافعون عن استمرار المجلس الرئاسي، بينهم رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، «مارتن كوبلر»، الذي قال: إن مدة السنة المقررة للمجلس الرئاسي تبدأ بعد اعتماد مجلس النواب للاتفاق، وليس قبل ذلك.
بدوره، أشار المتحدث الرسمي باسم المجلس الأعلى للدولة السنوسي إسماعيل، في حديثه مع «المجتمع»، إلى أن الاتفاق السياسي الليبي هو المشروع الوحيد الواقعي المتكامل المتوافر لعبور مرحلة انتقالية وصولاً إلى مصالحة وطنية شاملة ودستور دائم يُستفتى عليه الشعب الليبي، مبيناً أن الاتفاق السياسي يمثل محطة انطلاق لقاطرة الدولة الليبية التي ينشدها الشعب الليبي، وهو ليس حلاً نهائياً، ولكنه يحدد مرجعية للدولة أثناء المرحلة الانتقالية، ويدير الخلاف بين القوى السياسية الليبية بما يضمن وحدة ليبيا واستقلالها وحرية شعبها لتوفير بيئة مناسبة للحوار والتعايش السلمي، ووقف اللجوء للسلاح وللعنف، ودفع كافة القوى السياسية ومكونات الشعب الليبي نحو الوفاق الوطني.
وحول السند القانوني الذي أقيم عليه الاتفاق، أشار الناشط السياسي الليبي عبدالرؤوف المناعي، في حوار له على قناة «التناصح» الليبية، إلى أن الاتفاق لم يقم على سند قانوني لا في المواثيق الدولية ولا القوانين المحلية ولا في الإعلان الدستوري ولا في المبررات العقلية المنطقية عندما يختلف الناس للوصول إلى حل.
وبين المناعي أن الاتفاق يخالف مبادئ ميثاق الأمم في احترام السيادة الوطنية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ويخالف اتفاقاً وقع بين الدولة الليبية وبعثة الأمم المتحدة.
وقال: القرار الذي بموجبه اعترف بمجلس النواب كسلطة تشريعية يهدم سلطة القضاء، وينسف أسس بناء الدولة، ولا يقوم على أساس قانوني؛ وعليه فإنه يخالف المواثيق الدولية التي ترعى حق الشعوب في تحقيق مصيرها.
من جانبه، اعتبر الناطق الرسمي باسم المجلس الوطني الانتقالي د. محمد الحريزي، خلال حديثه مع «المجتمع»؛ أن الاتفاق شابهه عدة ملاحظات جعلت منه غير قابل للتطبيق، ولا يعتبر اتفاق مصالحة ووفاقاً وطنياً، وهي أن الذين وقّعوا على الاتفاق لا يمثلون إلا أنفسهم، وأن الطرفين الأساسيين في النزاع؛ وهما المؤتمر والبرلمان لم يعترفا بالأشخاص الذين وقّعوا نيابة عنهما.
وحول أسباب تمسك البعثة الأممية والمجتمع الدولي بهذا الاتفاق رغم أنه لم ينتج عنه إلا المزيد من الصراعات والاقتتال وتفاقم الأزمة الأمنية والاقتصادية لدرجة لم تعد تطاق, بحسب الحريزي، أن الاتفاق هندس للوصول بليبيا إلى هذه المرحلة بالضبط كما أوصلت الأمم المتحدة وبعثاتها اليمن وسورية إلى مزيد من الاقتتال، وإلى تمكين نظام «الأسد» والحوثيين من التقاط أنفاسهم والهيمنة على المشهد السياسي وفرضهم في النهاية كأمر واقع.
مشيراً إلى أن الهدف المخفي من اتفاق الصخيرات هو إعطاء الفرصة الكافية لخليفة حفتر للسيطرة على البلاد، وتهيئة الظروف الملائمة له من خلال زيادة حنق المواطن العادي على الثورة؛ بسبب الانفلات الأمني، والانهيار الاقتصادي، وغياب سلطة الدولة وعدم قدرتها السيطرة على الكتائب والمليشيات العسكرية ونقص في الخدمات.
وقال: لقد أصبح «كوبلر» – ومن قبله «ليون» – الموجه للعملية السياسية، وهو الذي يقبل أو يرفض التعديل على الاتفاق السياسي, وهو الذي يتنقل بين رؤساء الدول نيابة عن ليبيا ويناقش معهم الحلول والبدائل, وهو الذي يقترح فرض حفتر على المشهد وإعطاءه دوراً أساسياً في العملية السياسية, ويسعى لتقسيم ليبيا إلى ثلاث مناطق عسكرية تكون تحت قيادة حفتر, بل هو الذي يتدخل في عمل لجنة صياغة الدستور، مستغلاً في ذلك الانقسام السياسي، واستعداد بعض الأطراف للقبول بأي شيء يفرض عليها مقابل بقائها في السلطة.
وأضاف أن ما أراده «كوبلر» والدول الكبرى مما يسمى بحكومة الوفاق أن تقوم نيابة عنهم بوقف الهجرة غير الشرعية ومحاربة الإرهاب وفق خياراتهم، وإتاحة الفرصة للثورة المضادة للسيطرة على الأوضاع والعودة بليبيا إلى الوراء، وهذا يؤيده سكوت «كوبلر» والسراج والمجلس الرئاسي عن كل الأعمال الإجرامية التي يقوم بها حفتر من قتل وتشريد وحصار في بنغازي وما حولها، وتهديده للدخول إلى العاصمة والسيطرة عليها, بل والسعي المستمر من قبل السراج لإرضاء حفتر وعدم التصريح بأي شي يزعجه, فحتى عندما التقى عدداً من الضباط في طرابلس وأصدروا بيانهم باعتبار حفتر مجرم حرب، ولا يمكن أن يكون جزءاً من عملية إعادة بناء المؤسسة العسكرية, تبرأ السراج من ذلك ولم يقبل بهذا البيان.
وحول جرائم قوات حفتر في قنفودة، أشار الحريزي إلى استنكار المنظمات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الأهلية الجرائم التي ترتكب في حق المواطنين في مدينة قنفودة، والحصار المفروض على مدينة درنة، بعدما تمكنت من إخراج «داعش» وهزيمته, لافتاً إلى أنه مازال السراج يعتبر أن ما يقوم به حفتر هو حرب بطولية ضد الإرهاب والتطرف، غير مبالٍ بصرخات الأبرياء ونداءاتهم الاستغاثية.
ويشير إلى أنه بعد مرور سنة على توقيع الاتفاق إذا بالأزمة تزداد تعقيداً، والتدخل في الشأن الليبي أصبح يمارَس من أصغر الدول في العالم, والدينار الليبي وصل إلى أدنى مستوياته أمام العملات الأجنبية, والحروب ازدادت اشتعالاً، وعمليات الخطف والاختفاء أصبحت ترعب المواطن، والخدمات العامة شبه متوقفة بالكامل، وأنصار الثورة المضادة يتوسعون جغرافياً وسياسياً وإعلامياً.
المرحلة القادمة
يرى السنوسي إسماعيل أن المرحلة القادمة ستكون مرحلة توافق وحوار حقيقي، وبغض النظر عن الأشخاص؛ فإن الجيش الليبي الموحد الخاضع للسلطة المدنية التوافقية هو ما سيتم العمل على بنائه بمساعدة المجتمع الدولي.
ويلفت الحريزي إلى أنه لا خيار إلا التخلي عن «كوبلر» ومشاريعه، والعودة إلى الحوار الليبي الليبي وتوحيد صف الثوار في جسم شرعي واحد للتصدي لحفتر ومشاريعه الانقلابية.
وبحسب مركز دراسات الجنوب الليبي للبحوث والتنمية، فإن المرحلة القادمة تبدو غير واضحة المعالم، فمخرجات الاجتماعات والتحركات الدولية التي تشمل الأطراف المتصارعة غير معروفة، ولا تمثل سوى شعارات نظرية حسب الكثير من المحللين، ومن الممكن أن يحدث تغيير على الاتفاق من أجل تهدئة العاصفة التي حدثت حول انتهاء ولاية حكومة الوفاق الوطني، وكذلك للخروج من أزمة إعطاء الثقة للحكومة التي يأمل المجتمع الدولي أن تصبح موحدة.
ومع هذا السجال القائم، يظل مستقبل ومصير اتفاق الصخيرات مرهوناً بمدى مرونة الموقعين عليه؛ بشأن فتحه مرة أخرى وإجراء تعديلات مقترحة بما لا تفرغه من مضمونه، وتظل المؤسسة العسكرية ومن يقودها أهم نقطة نزاع واختلاف في بنود الاتفاق.