برغم أن قرار مجلس الأمن (2334) بوقف بناء المستوطنات “الإسرائيلية” في الأراضي الفلسطينية، ومطالبة “إسرائيل” بوقف الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وعدم شرعية إنشاء “إسرائيل” للمستوطنات في الأرض المحتلة منذ عام 1967م، يعد قراراً تاريخياً طال انتظاره من العرب أمام شبح “الفيتو” الأمريكي الدائم، فإن الامتناع الأمريكي عن التصويت؛ وبالتالي عدم تعطيل القرار، لم يكن مستغرباً، فقضية بناء المستوطنات تعد من القضايا النادرة التي تشكل جانباً مضيئاً في السياسات الأمريكية الرسمية توجتها إدارة الرئيس أوباما، وتنسجم مع الإرادة الشعبية كما بينته بعض استطلاعات الرأي منذ عقود، وتتبعتها في كتاب “الصراع العربي الإسرائيلي في استطلاعات الرأي الأمريكية” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حيث تنوعت الأسئلة ما بين السؤال عن مدى تأييد أو رفض الاستيطان، وحجج كل طرف في بناء أو وقف المستوطنات، وتسكين المهاجرين السوفييت، وعلاقة استمرار بناء المستوطنات في العلميات الفلسطينية، والدعم المالي لإيواء المستوطنين، وهو ما يمكن استعراض نتائجه في هذا المقال.
الاستيطان “الإسرائيلي”.. بداية الألم واستمراره
بدأت “إسرائيل” – في أعقاب احتلالها للضفة الغربية عام 1967م – ببناء مدن وقرى (مستوطنات)؛ تمكيناً وتثبيتاً لوجودها في فلسطين، وأنشأت مئات المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان، والتي يقطنها أكثر من نصف مليون مستوطن “إسرائيلي”، وحافظت، بل وزادت، من نشاطها الاستيطاني في الضفة الغربية.
وكانت – وما تزال – قضية المستوطنات “الإسرائيلية” قضية رئيسة للنقاش في جميع المفاوضات السلمية، ولذا يتفق معظم المراقبين على أن أي اتفاق سلام مستقبلي بين “الإسرائيليين” والفلسطينيين سيتطلب إخلاء وإزالة معظم – إن لم يكن جميع – المستوطنات “الإسرائيلية”.
وقد تجاهلت المفاوضات الإقليمية غير الحاسمة التي رافقت اتفاق “أوسلو” قضية المستوطنات، وقامت “إسرائيل” برسم خطتها الخاصة لإعادة رسم حدودها الشرقية لتشمل العديد من المستوطنات على الجانب “الإسرائيلي”، سواء كان ذلك عن طريق تبادل الأراضي في مكان آخر، أو الضم التدريجي للأراضي، وجاء بناء جدار العزل العنصري، الذي بدأ في العام 2002م، ليساهم في تطبيق الخطط “الإسرائيلية” على أرض الواقع.
وفي واقع الأمر، فإن جميع المشاريع والتصورات “الإسرائيلية” تقضي بالإبقاء على هذه الكتل الاستيطانية جزئياً أو كلياً؛ مما يعني أن الاعتراف الفلسطيني في المكانة النهائية لهذه المستوطنات يعتبر إنجازاً باهراً ضمن المصطلحات والمفاهيم التاريخية، ويصبح غير الشرعي شرعياً، وتتحقق النبوءة الخلاصية بأرض “إسرائيل”، ولذا استمر رصد الميزانيات لبناء المزيد منها، ووضع الخطط من قبل وزارة الإسكان لوحدات سكنية أخرى، وخاصة في مدينة القدس، واستباق الزمن لفرض الأمر الواقع في تهويد القدس.
وبشكل عام، تنوعت النظرة إلى موضوع المستوطنات، فمنهم من تناولها من منظور قانوني، مثل المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والتي اعتبرت أن بناء المستوطنات هو خرق للقانون الدولي، وبالمقابل هناك من نظر إليها من منظور سياسي، حيث يوجد مجموعة تنتقص من قيمة هذه القرارات، وتعتبرها ضد “إسرائيل”، وهناك من ينظر لها من ناحية حقوقية، أو مرتبطة بحقوق الإنسان من الجانب “الإسرائيلي”.
جدل المستوطنات بين الادارة الأمريكية والحكومات “الإسرائيلية”
لم يكن موضوع المستوطنات يعبر عن علاقة السمن والعسل بين الإدارات الأمريكية والحكومات “الإسرائيلية”، فقد مارست الأولى الكثير من الضغوط على الثانية من أجل تجميد المستوطنات، فيذكر أرون ميلر في كتابة “أراضٍ طالت وعود عودتها” العديد من المواقف والأقوال منذ عهد بوش الأب، ووزير خارجيته بيكر حول موضوع المستوطنات، ومن ذلك ما دار بين شامير، وبوش الأب في عام 1991م، حيث يقول حول اللقاء: وأما الذي قضى على علاقتهما فكان حوارهما في المكتب البيضاوي حول المستوطنات، فكان يبدو أن شبح الخلاف حول المستوطنات بين بيجن، وكارتر في “كامب ديفيد” قد عاد ليسكن في البيت الأبيض، لقد أثار بوش قضية المستوطنات، مشيراً إلى مدى حجم المشكلة التي تشكلها له شخصياً وللسياسية الأمريكية، فلوّح شامير بيده في الهواء بحركة استخفاف، وقال: إن المستوطنات لن تكون مشكلة.
ومع مرور الزمن أصبح عدد المستوطنات وتوسعها المستمر يثير قلقاً ليس فقط عند دعاة السلام في البلاد العربية، بل أيضاً عند الإدارة الأمريكية، وهو ما ظهر بشكل بارز في عهد الرئيس أوباما في الآونة الأخيرة، حيث أعلنت لجنة التخطيط والبناء للمستوطنات تجميد البناء بعد زيارة نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن، ويشير البعض إلى ظهور توجه عند الرأي العام “الإسرائيلي” في قبول هذا التجميد، وفيما يتعلق برؤية الولايات المتحدة لموضوع المستوطنات، فهناك من يرى أنه من أكثر الموضوعات أهمية، ومن أكثر القضايا التي ضغطت بها الإدارة الأمريكية على أطراف الصراع، انطلاقاً من أن الفلسطينيين موعودون بدولة قابلة للحياة، ومن شأن توسيع المستوطنات “الإسرائيلية” جعل قيامها أمراً مستحيلاً، على حد تعبير مارتن أنديك، في حين يرى اتجاه آخر أن موضوع المستوطنات مبالغ في أثره على فشل المفاوضات السلمية، وهو عكس ما تبينه نتائج استطلاعات الرأي بشكل عام حول الموضوع.
الأمريكيون وبناء المستوطنات
لم تستحوذ استطلاعات الرأي الأمريكية المتعلقة بالمستوطنات على نصيب كبير من الاهتمام، خاصة فيما قبل الثمانينيات، كما انصبَّ الاهتمام على قضايا بعينها دون غيرها، حيث لم تحظَ القضايا الخاصة بخطة إيقاف بناء المستوطنات في عهد ريجان، وإطلاق الصواريخ اللبنانية تجاه المستوطنات باهتمام يذكر.
من خلال النظرة العامة لنتائج الأسئلة المباشرة حول مدى تأييد أو عدم تأييد الأمريكيين لبناء المستوطنات، تشير النتائج إلى أن أكثر الأمريكيين لا يؤيدون بناء المستوطنات “الإسرائيلية”، وإذا أخذنا مثال استطلاع PIPA في مايو 2002م حيث وصفت “قضية المستوطنات” بأنها قضية مثيرة للجدل، كما عرّف السؤال المستوطنات بأنها: “قيام إسرائيل ببناء قرى للإسرائيليين تُدعى “مستوطنات” في الضفة الغربية وقطاع غزة”، أي في الأراضي التي يعيش فيها الفلسطينيون، التي احتلتها “إسرائيل” منذ حرب عام 1967م، وقد أظهرت النتائج أن 52% يرون أنه لا يجب على “إسرائيل” بناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، في حين اعتبر ما يقرب من 35% بأن “إسرائيل” تملك كامل الحق في بناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، تتفق مع ذلك نتائج استطلاع Los Angeles Times، الذي أجري في مارس 1998م، حيث أيد 32% فقط من المستجيبين استمرار “إسرائيل” في مواصلة توسيع الاستيطان، في حين رفضه 53%، وهو ما يدل على استقرار الرأي العام الأمريكي فيما يتعلق بمدى تأييده ورفضه لبناء المستوطنات.
ومما يشير لتنامي الرفض الشعبي الأمريكي لبناء المستوطنات، ما أشارت إليه نتائج الاستطلاع، الذي جرى في أبريل 2009م، أن الرفض الأمريكي لبناء المستوطنات “الإسرائيلية” يتزايد بمعدل 23 درجة عن نتائج الأسئلة التي سألتها PIPA في عام 2002م؛ بمعنى أن ثلاثة أرباع الأمريكيين (75%) يعتقدون أن على “إسرائيل” أن تتوقف عن بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، في حين رأى 20% أن ذلك من حقها.
ومما تجدر الإشارة إليه – أيضاً – رفض بناء المستوطنات من 64% من أولئك الذين أبدوا تعاطفاً مع “إسرائيل” على حساب الفلسطينيين، كذلك، ومما يدل على مدى انتشار تأييد وقف بناء المستوطنات في المجتمع الأمريكي، تأييده من قبل 65% من الجمهوريين، هذا فضلاً عن تأييد 83% من الديمقراطيين.
ومن المواضيع المرتبطة بالاستيطان، ما جاء في الأسئلة المتعلقة بالدعم المالي لإيواء المستوطنين، فكما هو المعلوم أن “خارطة الطريق” للسلام في الشرق الأوسط، التي اقترحتها الولايات المتحدة في عام 2003م، تضمنت دعوة “إسرائيل” للتخلي عن بعض المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى بنود أخرى لحل الصراع، وعند سؤال الأمريكيين حول تأييد قيام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالمساعدة في دفع تكاليف مالية لإعادة التوطين في حال وافقت “إسرائيل” على إيقاف المستوطنات وإعادة التوطين في أماكن أخرى من غير المتنازع عليها، عارض ذلك ما نسبته 54%، على حين أيده 37%.
خلاصة نتائج آراء الأمريكيين في المستوطنات “الإسرائيلية” أن أغلبيتهم البسيطة تعتقد أن “إسرائيل” يجب أن تتوقف عن بناء مستوطنات في الأراضي الفلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن رأي الأمريكيين بخصوص المستوطنات يعد نموذجاً للتوافق بين الإرادة الشعبية مع الإرادة السياسية، ويبدو أن هناك علاقة طردية بين مرور الزمن ورفض الأمريكيين بناء مزيد من المستوطنات، وهو ما قاد للقرار الأممي التاريخي المبهج بغض النظر عن التفاؤل بتطبيقه وتحايل الكيان “الإسرائيلي” عليه!
المصدر: موقع “عربي 21“.