لا بدَّ من الاعتراف في البداية بأنه – في الوقت الحاضر – قد تفوَّقت الحضارة الغربية على الحضارات الأخرى في احترام مواطنيها وتوفير الأمن والأمان لهم، فضلاً عن احترام كراماتهم الإنسانية، وفي توفير سبل الرعاية الصحية والاجتماعية لهم دون تفرقة بينهم، مستفيدة بذلك من رخائها المادي الذي تحقق عبر القرون على النحو الذي جرت الإشارة إليه من قبل.
ولكن تعميم هذه الحقيقة فيه إنكار لحقائق وتجارب بارزة، تثبت بجلاء أن التعامل مع المسلمين تحديدًا في ظل الحضارة الغربية بالذات لا يزال – كذلك – يعاني من أزمة كامنة، يبدو أنها تراكمت عبر التاريخ، فقد جرى تحميل المسلمين في دوائر كثيرة إعلامية وأكاديمية واستشراقية المسؤولية عن غالبية الحوادث الإرهابية الإجرامية التي استهدفت المدنيين الأبرياء في البلاد الغربية، وجرى – على نطاق واسع – وصم الإسلام بالغلو والتطرف والإرهاب، وكذلك نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث تناولته الأقلام بالغمز واللمز ومحاولة الحطِّ من قدره في نظر الآخرين.
من هنا بدأت الفكرة
وكانت فكرة الربط بين الإسلام والغلو والتطرف العنيف قد نشأت أولاً حين ثار القول: إن الإسلام هو العدو البديل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عن طريق ريتشارد نيكسون، الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية في كتابه “نصر بلا حرب” الذي صدر عام 1988م، حيث رأى نيكسون أنه بعد تراجع الحركة الشيوعية فقد حلت الأصولية الإسلامية محل الشيوعية، ثم تبعه ديك تشيني، وزير الدفاع ثم النائب السابق لرئيس أمريكا، وذلك في عام 1991م؛ حيث أكد أن الإسلام أصبح هو العدو البديل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ثم توالت بعد ذلك الأقوال والكتابات فالأفعال الدالة على اتخاذ الغرب للإسلام عدوًّا بديلاً بعد تغيير في المصطلحات المستخدمة؛ مثل “الإرهاب الإسلامي”، و”الإسلام السياسي”، و”الأصولية الإسلامية”، و”التهديد الإسلامي”.. إلخ، وقد ازدادت الحملة اتساعًا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، التي تم فيها تفجير بعض المباني في أمريكا واتُّهم المسلمون بارتكابها، فأصبح لفظ المسلم مرادفاً في العقلية الغربية للفظ الإرهابي.
ومن أبرز مظاهر تجاوز الحد والتصعيد في اتهام المسلمين بالغلو والتطرف، التضييق المتصاعد على الأقليات المسلمة في الغرب، والذي برز في قضايا مثل: حظر حجاب المرأة المسلمة في بعض الأماكن بعدد من الدول الأوروبية، والرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الدنمارك، وتصويره على أنه “إرهابي” بالمعنى السلبي الحديث، والمبالغة والتعميم في وصم المسلمين ودينهم بالإرهاب والعنف وعدم القدرة على التعايش مع الآخر، ثم توجيه الاتهام إلى الإسلام نفسه بأنه هو مصدر الخطر على وجه الأرض الذي ينبغي الاحتشاد لمواجهته.
دوافع وتفسيرات
ويبدو أن هذا التصعيد، فضلاً عن دوافعه السياسية التي تتمثل في إيجاد عدو بديل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة؛ يرجع إلى أن الرؤية الغربية الراهنة تستمد جذورها من “مبدأ المواطنة اليوناني” الذي عرف فكرة الأجنبي الذي يستحيل أن يصير مواطنًا لا هو ولا مَنْ يولد مِنْ صلبه، وعرفت فكرة “العبد والسيد”، كما أنها تستمد جذورها من “مبدأ السلام الروماني” الذي يستدعي فكرة “مركزية روما” وتبعية الشعوب الخاضعة لها، ويدشن بذور النظام القانوني القومي بفكرة “القانون الطبيعي”، و”القانون المدني”، و”قانون الشعوب” كجذور للداروينية والهيجلية والماركسية وغيرها من إفرازات تلك النظرية، فمفهوم “الأنا” الحديث هو الذي ولَّد مفهوم “الآخر” الذي يستحيل دخوله في “الأنا”، فتمت تنشئته على مقولة: إن القوة تخلق الحق، وإن العلاقة بينه وبين كل ما في الوجود لا تحتمل إلا خيارًا من اثنين؛ إما خضوعه لهيمنة الآخر، أو إخضاعه الآخر لهيمنته، وأن رسالته في الحياة هي أن يبرهن على أنه الأصلح للبقاء في صراع أبدي، لا موضع فيه للنظر إلى الكون على أنه كيان عضوي يلتزم الإنسان في مواجهته بأي ضوابط من غير صنع الإنسان، واعتبر “الأنا الحديث” علاقته مع “الآخر” كطبيعة علاقة غزو وقهر، واعتبر علاقته مع “الآخر الإنساني” لعبة صفرية، لا موضع فيها للتلاقح الفكري الحر الذي يحقق التعارف والتحاور بين البشر (انظر: الأنا والآخر من منظور قرآني، د. السيد عمر).
وهناك تفسير آخر لهذا العداء ذهب إليه د. أحمد داود أوغلو، وهو أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة التي حظيت بمنزلة أرقى من الحضارة الغربية، وأن المجتمعات الإسلامية هي المجتمعات الوحيدة التي لم ترضخ للأطماع الاستعمارية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بالإضافة إلى سعي الجماهير المسلمة في الوقت الراهن من أجل صياغة ثوابتها الحضارية وثقافتها في عصر عولمة الثقافة واحتكارها، وهذا هو السبب الرئيس الذي يفسر لماذا يجري الحديث عن المسلمين بوصفهم عناصر غير منسجمة مع النظام العالمي (العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، د. أحمد داود أوغلو، ص179).
وأيًّا كانت الدوافع وراء العداء المتصاعد ضد المسلمين والإسلام، فإنه يكشف بجلاء عن وجود مبالغة تعاني منها الدوائر الغربية في تعميم اتهام المسلمين (وعددهم يزيد على مليار ونصف مليار مسلم) بالغلو والتطرف والإرهاب، وهذه النظرة التعميمية الاختزالية تمثل في ذاتها – لا ريب – تعبيرًا عن غلو وتطرف كامن في النظر إلى الآخرين، لا سيَّما المسلمين، ينبغي الاهتمام به ومعالجته.
ويدعم ذلك أن استطلاعات الرأي المحترمة أثبتت رفض الغالبية العظمى من المسلمين للعنف ضد الأبرياء، وعلى سبيل المثال ووفق استطلاع مؤسسة “جالوب” الأمريكية، فإنه لم يؤيد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2011م سوى 7% فقط من المسلمين المشاركين في الاستفتاء، كما أثبت ذلك الاستطلاع عدم صحة ما زعمه بعض السياسيين والخبراء في الولايات المتحدة عن المسلمين من “أنهم يكرهون طريقتنا في الحياة، وحريتنا وديمقراطيتنا ونجاحنا”، فعند إجابة السؤال عما يُعجب الراديكاليين والمعتدلين سياسيًّا في الغرب، ذكروا هذه الإجابات الثلاث التلقائية في أعلى القائمة:
1- التكنية (التقنية).
2- نظام القيم في الغرب (العمل الشاق، المسؤولية الشخصية، حكم القانون، التعاون).
3- النظم السياسية العادلة (الديمقراطية، احترام الحقوق الإنسانية، حرية التعبير، المساواة بين الجنسين).
وعلى خلاف الاعتقاد الشائع من أن المتطرفين يعادون الديمقراطية فإن نسبة عالية مهمة من الراديكاليين سياسيًّا (50% مقابل 35% من المعتدلين) يقولون: إن التحرك نحو نصيب أكبر من الديمقراطية الحكومية سوف يشجع التقدم في العالمين العربي والإسلامي، عند اعتبار العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، بالإضافة إلى ذلك فإن الراديكاليين سياسيًّا لا يرفضون الغرب ببساطة؛ إذ لا يوجد فارق مهمٌّ بين نسبة الراديكاليين والمعتدلين سياسيًا الذين يقولون: “إن التفاهم الأفضل بين ثقافة الغرب والثقافة العربية والإسلامية يعنيني إلى حدٍّ كبير”، بل الأدعى إلى مزيد من الدهشة أن الراديكاليين سياسيًّا أولى من المعتدلين بارتباط الأمم العربية والإسلامية بالشغف بإنشاء علاقات أفضل مع الغرب، يعبر 58% من الراديكاليين سياسيًّا عن هذا (مقابل 44% من المعتدلين).
المصدر: كتاب “دور الوقف في مواجهةالغلو والتطرف”، للكاتب، وهو صادر عن الأمانة العامة للأوقاف بالكويت.