ألف المفكر والدبلوماسي الأمريكي إدوين رايشاور كتاباً تحت عنوان «اليابانيون»، طرح فيه سؤالًا جوهريًا: ما سر اليابان؟ وما سر نهوضها؟ وأجاب بأن سر نهوضها شيئان اثنان؛ هما: إرادة الانتقام من التاريخ، وبناء الإنسان، هذا هو الذي نهض باليابان إرادة الانتقام من تاريخ تحدى أمة هزمت وأهينت فردت على الهزيمة بهذا النهوض العظيم، وبناء الإنسان الذي كرسه نظام التعليم والثقافة.
من تلك الفكرة العميقة في دلالاتها وأبعادها والتي توحي بالكثير من الاحترام والإعجاب للنهضة اليابانية في عيون الغربيين، استطاع مهاتير بن محمد، رائد النهضة الماليزية، أن يقدم قراءة أخرى لهذه الفكرة؛ وهي أن استنساخ التجربة الصناعية الغربية ليست حكراً علينا، بل هناك خيارات أخرى ربما تكون أكثرا نضجاً وأكثر ملاءمة لوضعيتنا.
يقول مهاتير بن محمد في مذكراته : قبل استيلاء اليابان على ماليزيا كنا جميعا نعتقد بتفوق الغرب، وذكائه، وقوته الخارقة، وإبداعه العلمي والتكنولوجي؛ الأمر الذي ولّد لدينا شعوراً بتفوق الإنسان الأوروبي ودونية غيره من الأعراق، بداية زيارتي لليابان ولّدت لديّ انطباعاً أن ماليزيا يمكن أن تستفيد كثيراً من التجربة اليابانية، خلال الفترة التي توليت فيها منصب رئاسة الوزراء كانت اليابان قد تربعت في مقدمة الدول الصناعية الكبرى، كما بزغ نجم كوريا الجنوبية كقوة صناعية صاعدة في المنطقة.
لم يأخذ مني التفكير كثيراً من الوقت لأقرر أن ماليزيا يجب أن تعتمد هاتين الدولتين كنموذج في عملية البناء والنماء الاقتصادي، وهنا كانت بداية الانطلاقة لما عرف بـ Looking East Policy، كنت في البداية متحيراً من رد الفعل الأولي الذي طبعته السلبية في التعاطي مع الفكرة، أغلب الموظفين المدنيين اقترحوا أن مسايرة الثورة الصناعية في اليابان على حساب الأوروبيين هو ضرب من العبث.
يرى هؤلاء أنه من المنطقي مسايرة الأوربيين؛ لأنهم أكثر خبرة، ولأنهم هم مصدر إلهام الثورة الصناعية اليابانية، لكن ما نسيه هؤلاء حسب اعتقاد مهاتير محمد هو أن أوروبا تشهد نمواً اقتصادياً بطيئاً خلال 200 سنة الماضية، بينما اليابان القادمة إلى التطور الصناعي بقوة لا تزال تمتلك تجارب طازجة، حيث ما زالت المشكلات والعقبات التي واجهتها في الذاكرة ويمكن الاستفادة منها، إضافة إلى أن اليابانيين أكثر كرماً من الأوروبيين في إعطاء التقنية الصناعية، لست ضد التجربة الأوروبية – يقول مهاتير – بل العكس أحترمها ومازال فيها الكثير يمكن أن نستفيد منه، لكن دائماً من الأحسن أن نتعلم من التجارب الحديثة مقارنة بتلك القديمة.
سياسة Looking East Policy: لا تعني ببساطة النظر إلى تجربة اليابان وكوريا وقدرتهما الصناعية، بل الأمر يتعدى ذالك إلى معرفة النقاط الأساسية التي أدت إلى هذا التطور الهائل، ما نوعية النظام الاجتماعي والثقافي الذي ولدت فيه هذه التجارب العظيمة؟ أحد أهم العوامل التي ارتكزت عليها هذه النهضة أخلاقيات العمل والتي تشمل مجموعة قيم ومُثل من بينها: الاجتهاد في العمل، والشعور بالوطنية، والانتماء والفخر تجاه منتجاتهم.
كانوا أيضاً وطنيين جداً، من التجارب التي يمكن أن نستفيد منها هو قيام اليابانيين بتكتلات تجارية واقتصادية تشمل البنوك التي توفر التمويل لبقية التكتلات التي تحتاج السيولة، كنت أيضاً معجباً بطريقة تعامل اليابانيين مع جلب التكنولوجيا؛ حيث أولاً: نسخ المنتجات التكنولوجية، ثانياً: إجراء تعديلات وتطورات عليها، وأخيراً: تطوير منتج ياباني جديد وفق معايير جديدة.
استطعت أن أقنع أغلب أعضاء المجلس الوزاري بأن Looking East Policy هي سياسة جيدة للنهوض ببلدنا، لكن كان هناك من لم يقتنع نهائياً بهذه السياسة، ومن بينهم آنذاك رئيس الوزراء Tun Muss Hitam الذي لم يكن يهتم بهذه السياسة، لكن حينما تكون في رأس السلطة سيكون لديك النفوذ والقدرة لاستخدامها، في عهد رئيس الوزراء Tun Muss Hitam عرفت أن أفكاري ليست بتلك الأهمية بالنسبة له، لكن قررت أن أبدأ تنفيذ هذه السياسة، ولم يكن هناك أي تأثير لعدم دعمه للسياسة الجديدة.
قبل تبني Looking East Policy كنا نرسل طلابنا إلى أوروبا، وبالتحديد بريطانيا، لكن السياسة الجديدة اعتمدت إرسال الطلاب إلي اليابان وكوريا وتوسيع منحهم لتشمل دراسة اللغة للتغلب علي حاجز اللغة، كذالك الشركات المحلية بدأت إرسال بعثات من عمالها إلى اليابان وكوريا لتحسين خبرتهم، وكذالك اكتساب أخلاقيات العمل التي يتمتع بها العمال في مصانع وشركات تلك الدول.
شركة بروتون Proton الماليزية لصناعة السيارات أرسلت أعداداً كبيرة من مهندسيها وإدارييها إلى شركة ميشيبيشي Mitsubishi اليابانية لاكتساب الخبرة، في اللحظة التي علمت اليابان بتبنينا للسياسة الجديدة، بدأت بتوفير أماكن طلبتنا في جامعاتها، وكذالك وفرت منحاً دراسية جديدة لمساعدتنا.
كانت الحرب قد انتهت للتو، ولا تزال الذاكرة مليئة بأحداث تلك الحرب, ولا يزال الماليزيون يحملون الكثير من مشاعر الغضب تجاه اليابان.
حينما قلت: إن ماليزيا يجب أن تتعلم من التجربة اليابانية كنت واثقاً أن الأمر سيشكل رد فعل حسناً من اليابان؛ لأن الحكومة الماليزية لا تظهر كراهية لليابانيين كما توقعوا، واستطعنا بمساعدة اليابان أن نقدم الكثير والكثير لبلدنا خاصة في مجال الصناعات الإلكترونية وصناعة السيارات وغيرها، وكان لتطوير منظومتنا الصناعية دور كبير في نهضة بلدنا وتطوره.
شكلت اليابان خياراً إستراتيجياً للدول الآسيوية لتطوير منظومتها الصناعية، وكان هذا الخيار ناجحاً في النهضة الماليزية، فقد حققت نجاحاً كبيراً وأخرجت بعض المجتمعات من بوتقة الانبهار بالصناعة الغربية وفتّحت عيون الدول الآسيوية الأخرى على إمكانية الاستفادة من النهضة الصناعية اليابانية التي أبهرت العالم وغيرت مجريات التاريخ فيما يتعلق بالصناعة.
نقلاً عن موقع “إسلام أون لاين”