5 ثمرات للإخلاص في طلب العلم

إذا كان طلب
العلم شرف لا يُدانيه شرف؛ فإن الإخلاص فيه هو الروح التي تُحييه، والنور الذي
يُزكّيه، فما أكثر من حمل العلم في صدره، ثم لم يجاوز تراقيه، لأنه ابتغى به
الدنيا وزينتها! وما أقلّ من أخلص لله في طلبه، فأثمر علمه نوراً في قلبه، وبركة
في حياته، وأثراً باقياً بعد موته.
ومن يتأمل في
سير العلماء الربانيين يجد أن سرّ بركة علمهم لم يكن كثرة المصنفات ولا طول
الأعمار، بل كان إخلاصاً صافياً وُجِّهت به نياتهم نحو الله، فرفع الله ذكرهم وجعل
لهم القبول في الأرض.
ومن هنا، فإن
الحديث عن الإخلاص في طلب العلم ليس حديثاً عن فضيلة إضافية، بل عن ركن أصيل يميز
بين علم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة، وآخر يجرّه إلى الرياء والجدال والخذلان، وهذه
بعض ثمرات الإخلاص في طلب العلم.
1- تحويل التعلم إلى عبادة:
إذا كان الإسلام
قد أمر بالعلم وحث عليه ورفع درجة أهله، فإن الاستجابة لهذا الأمر واجبة، لكن لا
يتحقق الثواب لمن فعل ذلك إلا بشرطين؛ هما الإخلاص والموافقة للشرع.
قَالَ
الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (هود: 7)، قَالَ أَخْلَصُهُ
وَأَصْوَبُهُ، قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ:
إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ،
وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ: حَتَّى يَكُونَ
خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ
عَلَى السُّنَّةِ(1).
فإذا صحت النية
وانضبطت المسيرة العلمية فإن ذلك يجعل المسلم في عبادة لا تعدلها عبادة، قال
الإمام أحمد: العِلمُ لا يَعْدِلُهُ شيء لِمَنْ صَحَّت نيَّتُهُ؛ لأنَّ
مَبْنَى الشَّرعِ كُلِّه على العِلم، حتى الجهاد مَبْنَاهُ على العِلم، ويدلُّ
لهذا قوله تعالى: (وَمَا
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) (التوبة: 122)؛ فَنَفَى الله أَنْ يَنْفِر المسلمون
كلُّهم إلى الجهاد، ولكن يَنْفِرَ طائفةٌ ويبقى طائفةٌ لتتعلَّم؛ حتى إذا رجع
قومُهم إليهم أخبروهم بما عندهم من الشَّرع، ولكن يجب في الجهاد وفي العِلم تصحيحُ
النِّيَّةِ؛ وإخلاصُها لله عزّ وجل، وهو شرطٌ شديدٌ؛ أعني: إخلاصَ النِّيَّة(2)؛
فالإخلاص يجعل رحلة طلب العلم عبادة متجددة، إذ يصبح الحفظ، والمطالعة، والمناقشة،
والكتابة كلها طاعات يُتقرب بها إلى الله.
2- التواضع ومداومة التعلم:
يحرص المخلص في
طلب العلم على الاستزادة منه، والتحصيل له، دون كبر أو غرور، فهو يجلس في مجالس
العلم ويسأل المتخصصين في العلوم، حتى وإن كانوا أصغر منه سناً، فعن عطاء بن أبي
رباح قال: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه قط، وقد سمعته قبل
أن يولد(3).
3- التوفيق والفتح:
الإخلاص سبب
لفتح أبواب الفهم، وتيسير تحصيل العلوم، ومباركة الوقت والعمر، فالله تعالى هو
الذي يملك هذه الأشياء، ويهبها لمن أخلص لله في العلم، بل إنه سبحانه يهب الحكمة
والبصيرة لمن أخلص له، ففي مصنف ابن أبي شيبة عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: بَلَغَنِي
أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَخْلَصَ
عَبْدٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا إِلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ
عَلَى لِسَانِهِ»(4).
4- تحمل الصعوبات:
لا يتحمل
الصعوبات والمشقات في طلب العلم إلا من عظم قصده وصحت نيته، وقد ذكر أهل السير أن
هشاماً بن عمار كان شغوفاً بطلب علم النبوة وهو صغير، وكان معاصراً للإمام مالك،
فجاءه في رحلة شاقة طويلة.
فعن محمد بن
الفيض الغساني قال: سمعت هشاماً بن عمار يقول: باع أبي بيته بعشرين ديناراً وجهزني
للحج وطلب العلم، قال: فتوجهت من دمشق تاركاً أهلي ووطني رغبة في الحج إلى بيت
الله، ولقاء الأئمة أمثال مالك.
قال: فلما صرت
إلى المدينة أتيت مجلس الإمام مالك ومعي مسائل أريد أن أسأل الإمام فيها، وأريد مع
ذلك أن يحدثني، قال: فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمانه قيام حوله، والناس
يسألونه ويجيبهم، يتدفق كالبحر.
قال: فلما انقضى
المجلس قمت لأسأله وأطلب أن يحدثني، فاستصغرني ورآني لست أهلاً للرواية، فقال:
حصَّلنا على الصبيان -يعني أنه لم يبقَ إلا الصبيان- يا غلام -لأحد غلمانه الذين
حواليه- احمله، قال: فحملني كما يُحْمل الصبي، وأنا يومئذ غلام مدرك، فأخرجني.
يقول ابن جزرة:
ودخل هشام ذات يوم على الإمام مالك بغير إذن وقال له: حدثني، فرفض الإمام مالك،
يقول هشام: فكررت عليه وراددته، فقال لغلامه: خذ هذا واضربه خمسة عشر سوطاً، قال:
فأخذه وذهب به وضربه خمسة عشر سوطاً، فوقف يبكي على الباب حتى خرج الإمام مالك
فإذا به يبكي، فقال له: ما يبكيك يا هشام! أو أوجعتك؟ قال هشام: إن أبي باع منزله
بعشرين ديناراً، ووجه بي إليك لأتشرف بالسماع منك، فضربتني وظلمتني بغير جرم فعلته
سوى أني أطلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا جعلتك في حلٍّ، لأسألنك
بين يدي الله، فتأثر الإمام مالك، وعلم أنه طالب حديث وجامع سنة بحق، فقال: يا
بني! ما يرضيك؟ ما كفارة ذلك؟ فقال هشام: أن تحدثني بكل سوط ضربتنيه حديثاً عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجلس الإمام وقال: حدثنا فلان عن فلان عن
فلان، فسرد له خمسة عشر حديثاً، فقال بعدها: يا إمام! زد في الضرب، وزد من الحديث،
فضحك الإمام مالك وقال: اذهب.
5- الوقاية من النار:
روى الترمذي
عَنْ مَالِك بن أنس، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ
السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ
النَّارَ».
بل إن النبي صلى
الله عليه وسلم قد حذر من الرياء في طلب العلم، وأوضح الوعيد المترتب على ذلك، وهو
الحرمان من الجنة، ففي مسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى
بِهِ وَجْهُ اللهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ
الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
____________________
(1) منهاج السُّنة
النبوية: ابن تيمية (5/ 253).
(2) الشرح
الممتع على زاد المستقنع: ابن عثيمين (4/ 6).
(3) تهذيب
الكمال في أسماء الرجال: جمال الدين المزي (20/ 83).
(4) المصنف: ابن
أبي شيبة (7/ 80).